لا يمكن التقليل من خطورة الدراما الاعلامية التي أثارتها الصحافة الاسرائيلية عن محاولة الاختطاف الوهمية لطائرة "ال عال". لقد تضمنت الزوبعة الاعلامية كافة عناصر الخبر الكاذب غير المفحوص صحفياً: اثارة الغرائز العنصرية وافتعال التأثر والعواطف والشخص المشبوه ورجال الامن الابطال بدون بطولات، أي بالرخص، والمسافرين الخائفين. وكلها تركيب واختلاق وخيال اسرائيلي جامح من النوع الذي يثير الشبهات العنصرية حول جمهور باسره في كافة مطارات العالم. لقد تحول سكين بلاستيك من النوع الذي يقدم على صواني طعام شركة الطيران الذي يبدو هو الآخر من بلاستيك، وتحول في هذه الدراما الى سلاح مدمر يستخدم في خطف طائرة. وتحول غضب المسافر الذي عومل بعنصرية كما يبدو الى سلوك مشبوه وهجوم على المضيفة. وتحول المشي الى الامام الى ركض باتجاه مقصورة قيادة الطائرة. وتحولت عنصرية بعض رجال الامن والمسافرين الى عنصرية. والحمد لله ان الشاب الذي طرح ارضا لم يتدرب على الطيران في هذا البلد لأن العرب لا يصلون الى مدرسة طيران أصلا وبدون واسطة 11 أيلول.

ويبدو ان ضحية هذه الزوبعة الوحيدة هو المواطن الشاب توفيق فقرا من قرية البعينة الجليلية. والذي لا بد انه يعتقد الآن انه اخطأ عندما اختار السفر على خطوط شركة "ال عال" برجال امنها الذين يسارعون الى القاء المسافر ارضاً وخلع حذائه والجلوس على المسافر كما قالت الصحف الاسرائيلية حتى لا يتحرك الى ان هبطت الطائرة. ولا احد في الدنيا يريد ان يجلس عليه اربعة رجال امن اسرائيليون.

ومن دلائل تجاوز هذه الزوبعة الاعلامية العنصرية الرقم القياسي الاسرئيلي ذاته ان رجال الامن الاتراك غير المعروفين بدماثتهم او لطافتهم لم يصدقوا رواية رجال الامن الاسرائيليين، وشككوا بها حال سماعها.

ولكن الاعلام الاسرائيلي الباحث عن الاثارة لم يكل ولم يمل وبقي نصف ليلة ونصف نهار يلف ويدور حول لا شيء محدد كما يدور الاعصار المدمر دون سبب مفهوم ويحمل في طريقه كل شيء من لا مكان الى لا مكان. وهكذا وصل الامر بالاعلام الاسرائيلي الى التشكيك ليس فقط بالمسافرين العرب الذين يعانون الأمرين اصلاً في كافة مطارات العالم وخاصة في الخطوط القادمة والمغادرة من والى هذه البلاد وانما ايضاً باجراءات الامن في شركة "ال عال" ذاتها والتي اعتبرت حالة شاذة حتى قبل 11 ايلول من حيث سماجة التفتيش وفظاظة وغرابة الاسئلة التي توجه للمسافرين وفحص الاوراق قبل فحص الاشياء.

ومما يثير الضحك والسخرية ومن غير المؤكد انه مثير للاحراج لدى الاعلام الاسرائيلي انه اي هذا الاعلام قابل المسافرين حول مشاعرهم بعد "عملية الاختطاف" المدعاة، كما صور المسافرين في المطار يتعانقون فرحاً بنجاتهم من مقصٍ لتقليم الاظافر او سكين بلاستيك والله اعلم. والحقيقة ان الوحيد الذي نجا هو توفيق فقرا.

ما المهم في هذا الموضوع؟ المهم انه رغم الضجة الاعلامية الاستثنائية التي خبت وانسلت عن الشاشات دون استئذان او اعتذار فان هذه الحادثة ليست عرضية او استثنائية. بل ان اهميتها تكمن في انها قد تحصل لأي مواطن عربي في اي مطار وفي طائرة امريكية او اسرائيلية بشكل خاص. فاي شيء قد يقوم به قد يبدو مشبوهاً للمضيفين او لرجال الامن او للركاب وقد يجد نفسه في حالة محرجة قبل ان يتمكن من التفوه بحرف. اما اذا صرخ او فقد اعصابه كما يحصل للبشر فقد يفسر هذا السلوك الانساني كسلوك عدواني او كاعتداء ومن يدري ربما كمحاولة اختطاف. وعندما تصادف ايها القاريء النبيه مسافرين عرباً يجردون جرداً في مطارات العالم اجمع فاعلم انه ما من رأس من هذه الرؤوس الا وتبادرت اليه هذه الافكار : كيف اجلس واين؟ هل حقيبتي مشكوك بها؟ هل احملها ام ارسلها؟ لماذا ينظر الي بهذا الشكل؟. وقد بلغني بعض المواطنين العرب الامريكيين انهم في الطيران الداخلي في الولايات المتحدة يتجنبون النهوض عن الكرسي لقضاء حاجة انسانية لكي لا يثيروا الشبهة او الشك انهم يتوجهون نحو مقصورة الطيارين او لانهم يتجنبون نظرات المسافرين التي ترافقهم خطوة بخطوة.

عندما تبدأ كرة العنصرية الدبقة رحلتها لا بد ان تكبر لان كل شيء يلصق بها. فما دام الشخص مشبوهاً بنظر العنصري فان اي تصرف مهما كان تافهاً يبدو له دليلاً على الشبهة. في هذه الايام اعتقل رجل اعمال عربي امريكي ناجح من فلوريدا للاشتباه به بقائمة طويلة تتجاوز 30 تهمة او شبهة كانت تعتبر في الماضي بغالبيتها الساحقة اموراً طبيعية، منها انه يشغل غرباء بدون ترخيص. ويكاد لا يخلو مطعم او متجر امريكي منهم، حوالاته البنكية باتت شبهة، وسفره الى الوطن اصبح مسألة فيها نظر، لقاءاته، محادثاته الهاتفية، عبارة الله أكبر، لا شيء يسلم من الشبهة. العنصرية في بلاد لا تخجل سلطاتها من التنميط على اساس عرقي وتعتبره اداة شرعية لتقسيم المسافرين الى خطير وغير خطير هي عدو لكل مواطن مهما كان حسن السيرة والسلوك بمفاهيم المجتمع نفسه والمؤسسة الحاكمة ذاتها.

والمهم ثانياً ان الحملة العلامية الاسرائيلية القصيرة النفس في هذه القضية طويلة النفس في بحثها الدؤوب عن قضايا اثارة عنصرية مشابهة دون اي اعتبار لاصول المهنة الصحفية. ومن الطبيعي ان تساهم الاجواء الهستيرية ضد العرب في المجتمع الاسرائيلي في زيادة الطلب على هذه البضاعة المعروضة في وسائل الاعلام، ومن الطبيعي ايضا ان يساهم ايقاع الاعلام الاسرائيلي في تغذية هذه الأجواء. ولكن المواطن العربي يعيش هنا في وطنه في بلاده على ارضه تحت سقف القانون القائم في هذه البلاد ويجد نفسه في تناقض مع العنصرية في كل خطوة عادية يقوم بها ولا بد من التصدي لهذه العنصرية والويل الويل من التراجع امامها.

ملاحظة: في مكان آخر وفي سياق آخر تماما ولكن من قبل الاعلام نفسه وبمشاركة من وسائل اعلام عالمية تعتبر محترمة تم الافتراء على الفلسطينيين انهم اطلقوا النار مستهدفين المصلين بشكل خاص ليتبين فيما بعد ان عملية الخليل كانت عبارة عن كمين ومعركة ضد جنود ومستوطنين مسلحين بل رجال امن في مستوطنة، وطبعا لم يعتذر أحد من المفترين. ولم يتوقع احد ان يعتذروا ضمن حرب الدعاية القائمة.

ولا اعتقد ان حركة الجهاد الاسلامي تميز بين المستوطنين فكلهم بنظرها مستوطنون، ولكن قائدها وجد من المناسب ان يقول انها لم تستهدف المصلين، وقد ثبت انه صدق وكذب المفترون.

*مفكر وكاتب، رئيس التجمع الوطني الديمقراطي- الناصرة.