أهم مظاهر خطورة الوضع الحالي في فلسطين هو تعميق التفاهم الأمريكي مع إسرائيل حول تفاصيل متعلقة بدمج الحملة الإسرائيلية الحالية على الفلسطينيين في سياق ما تسميه أمريكا الحرب على الإرهاب عالمياً. وربما كان هذا هو مغزى مفارقة تزامن الانفجارين في بغداد وفي القدس، لكي تبيعهما إسرائيل تصويرياً لأمريكا على أنها نفس المعركة ونفس الخصوم الذين يتوعدهم بوش بنفس واحد. وبهذا المعنى فإن حمرة بعض الخطوط الأمريكية الحمر المرهونة بحسابات أمريكية إقليمية تحدد نوع رد الفعل الإسرائيلي المتاح قد خفتت حالياً. والأمر الأساسي هو تقدم عملية التراكم بعد كل عملية تستهدف المدنيين. فقد رتبت إسرائيل ملفها الدولي ضد ياسر عرفات وضد فصائل الكفاح المسلح الفلسطيني ورقة تلو ورقة ووثيقة اثر وثيقة، وقد سمح غياب الاستراتيجية الفلسطينية الموحدة وغياب الاستراتيجية العربية على الساحة الدولية بحصول هذا التراكم. ولم نشهد في الأشهر الأخيرة تصديا دبلوماسيا حقيقيا على المستوى الدولي لهذه المحاولة الإسرائيلية كما شهدنا في بداية الانتفاضة. فمنذ نهاية الحرب على العراق رسميا فرغت الساحة الدولية تماما من النشاط العربي، اللهم إلا جهد استرضاء أمريكا أو العتب عليها من قبل أصدقائها، كل يجس نبض الموقف الأمريكي منه. وقمة النشاط الدبلوماسي تلقي دعوة من فرنسا لمصافحة الرئيس الأمريكي او دعوة للترحيب به في شرم الشيخ. هل هو الصيف وإيقاعه؟ ربما. ولكن لا مناص من رؤية آثار الحرب في رؤوس العرب و"جيت لاغ" ساعات المشاهدة التلفزيونية الطويلة والمتتالية لبرامج الثرثرة التي سبقت الحرب وأعقبتها، من نوع آثار سكر الليلة الفائتة وأوجاع الرأس والدوار بعد الاستيقاظ. ورغم الفراغ لم تستيقظ الدبلوماسية العربية من خبل حالة ما بعد الحرب.

ففي حين كانت إسرائيل تشير إلى حماس وياسر عرفات و"المقاطعة" والفصائل الفلسطينية بإصبع الاتهام لم يكن هنالك رد فلسطيني أو عربي موحد، بل قوبل المشروع الإسرائيلي بفتح هذا الملف دولياً مرةً بالموافقة، مفهوميا على الأقل، على ما تقوله إسرائيل مع التأكيد على ضرورة إعطاء "القيادة الفلسطينية الجديدة" الوقت الكافي للاستعداد ولإعادة بناء الأجهزة الأمنية ولإنهاء موضوع فصائل الكفاح المسلح الفلسطيني، أو باعتبار النضال الفلسطيني إرهابا وشرعنة هذا الادعاء، أو جاء الرد بعمليات ضد المدنيين دون خطاب سياسي عقلاني جدي يرد على الادعاءات الإسرائيلية.

وكان السلاح الافتراضي الأمضى بيد العرب هو تحذير أمريكا من فشل "خارطة الطريق"، وقد صعق البعض لسماع بوش يحذر العرب والفلسطينيين من فشلها بعد انفجار حافلة الركاب في القدس. وعادت مصادر في البيت الأبيض لتؤكد أن بوش "ما زال" حتى الآن متمسكا... و"ما زال" هنا لا تعني الا التهديد، فهو ما زال متمسكا حتى الآن، وقد لا يبقى متمسكا فيما بعد.

لقد حاولت إسرائيل منذ 11 أيلول أن تدفع بالنضال الوطني الفلسطيني في خانة الإرهاب دولياً، ولكنها فشلت فشلاً ذريعاً وتصاعد التضامن مع الفلسطينيين حتى في أوساط أمريكية وأوروبية كانت موالية لإسرائيل في السابق. ولكن الإدارة الأمريكية ومعها الكونغرس ازدادا تلاحما مع إسرائيل إلى درجة تبني وعولمة نظريات الأخيرة الأمنية المتعلقة بالحرب الاستباقية مثلا. وفي الوقت الذي يتابع فيه البيت الأبيض بهلع مصير هذه النظريات التي ما زلنا نشهد تفاعلاتها في العراق يؤكد المحافظون الجدد على التحالف مع إسرائيل ضد سوريا أيضا، ويحاولون باستماتة أن يفتحوا الملف السوري بالطريقة الإسرائيلية، إلى درجة التهديد بعمليات ضد سوريا، ليكتشفوا المرة تلو الأخرى ان الموضوع أصعب بكثير مما يتصورون فيعودون إلى الضغط الاقتصادي والى روتين محاولة عزل ومحاصرة سوريا.

ولكن الهزيمة العربية الداخلية التي تنازلت عن مبادرة السلام العربية الواضحة للعرب مجتمعين في بيروت، وقايضتها برضى أمريكي محدود الضمان عن الأنظمة العربية فرادى و"خارطة طريق" لا ترشد إلى أي مكان، ثم الهزيمة العربية الداخلية التي زجت بفلسطين من وراء ظهر الأخيرة في خانة الهزيمة مع نظام صدام حسين في تكرار غير مبرر لتجربة حرب الخليج من العام 91، هذه الهزائم الداخلية تساعد إسرائيل في حشر النضال الفلسطيني في خانة الإرهاب، كما تساهم في تمكين إسرائيل من بدء فتح هذا الملف مثلما فتحت أمريكا ملف العراق تدريجيا. نحن أمام مشروع إسرائيلي أمريكي جديد، وهو لا يبدو جديدا فقط لان معالمه تتراكم تدريجيا حتى كادت تضيع في التفاصيل. وتقترب اللحظة التي ستبق فيها إسرائيل الحصوة حول خارطة الطريق ذاتها.

ولم يكن هذا ممكناً لولا وجود قوى فلسطينية متجاوبة مع قراءة الإحداث الدولية بهذا الشكل تأكيداً لرأي تحتفظ به منذ فترة طويلة أن إسرائيل تكاد تستحق الشكر على ما "تمنحه" للفلسطينيين حاليا وفي هذه الظروف "لأننا ببساطة هزمنا". لم يكن بالإمكان دون هذا الموقف تخيل استقبال شارون في أوروبا في طريق عودته من أمريكا بهذا الشكل.

يفتح تفجير الحافلة في مدينة القدس واغتيال القيادي البارز في حماس إسماعيل أبو شنب حلقة تصعيد إسرائيل جديدة تذكر بالاجتياح بعد عملية نتانيا. في حينه ركزت إسرائيل على مقتل عجزة في فندق بارك ليلة عيد الفصح. وفي هذه المرة على أشلاء أطفال أثناء عودتهم من رحلة صلاة الى حائط المبكى. لن تفوّت إسرائيل هذه الفرصة دون استثمارها بشكل منظم، على الأقل في قضايا محددة مثل ملاحقة قيادات حماس والجهاد وكتائب الأقصى. صحيح أن إسرائيل كانت تغتال قياديي حماس والجهاد وكتائب الأقصى عندما تستطيع، ولكن في هذه المرة بالامكان الحديث عن مشروع إسرائيلي لتصفية قيادات الحركات الإسلامية في مرتبة متقدمة على جدول الأعمال الإسرائيلي بمنهجية ومثابرة يرغب الإسرائيليون بتشبيهها بقرار غولدا مئير بملاحقة تنظيمات فلسطينية بعد عملية ميونيخ. كما أن إسرائيل، ودون الدخول في تفاصيل، سوف تضع السلطة الفلسطينية أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن تنفذ ما تعهدت به في خارطة الطريق من هدم بنى الفصائل المسلحة، أو تندفع إسرائيل نحو هذا الهدف بطريقتها مدمرة ما تدمره في طريقها، بما فيه بعض بنى السلطة الفلسطينية ورموزها، وهم يتحدثون عن ذلك صراحة في الأيام الأخيرة. وعلى القيادات الفلسطينية بموجب هذا الطرح الإسرائيلي ان تصنف نفسها إلى تيار من يعتبر نفسه ضحية ما تقوم به إسرائيل حاليا ومن يدعي انه ضحية ولكنه يعرف أن إسرائيل تقوم بما لا يستطيع القيام به، أنها في الواقع تريحه من مهمة مستحيلة.

طبعاً سوف تدرك إسرائيل في النهاية أنها لن تجد فلسطينيين يوافقون على تسوية بشروط شارون، ولكنها سوف تدفِّع الشعب الفلسطيني ثمناً غالياً قبل أن تقتنع بذلك. وسوف يكون هنالك من الفلسطينيين من هم جاهزون للموت لتدفيع المجتمع الإسرائيلي بعض الثمن. وقد حاولت إسرائيل كل ما في وسعها لاجتثاث هذه الظاهرة الأخيرة فأدت المحاولة إلى زيادة عدد الشباب الفلسطينيين الذين فقدوا معنى حياة تسر الصديق لصالح ممات يكيد العدا.

وحتى لو لم تنجح إسرائيل سياسياً في النهاية فإن الحالة الراهنة حبلى بالمخاطر وبإسقاطاتها وآثارها المباشرة على الشعب الفلسطيني والحركة الوطنية ويجب إيجاد الطريق فوراً الى وحدة بين كافة القوى الوطنية الفاعلة الرافضة لإملاءات شارون السياسية. ويجب ان تتوفر قناعة تثير الثقة بين الأطراف الوطنية على الساحة الفلسطينية أنه لا تسوية في عهد شارون لكي يتم الانتقال الى المرحلة الثانية من الحوار والمتعلقة بوسائل النضال.

لا علاقة لهذا السؤال بوقف إطلاق النار مع إسرائيل، فهذه مسألة أخرى. إسرائيل لن توافق بأي حال على وقف متبادل لإطلاق النار في صيغة اتفاق بينها وبين الفصائل. ولكن، وبغض النظر عن موافقة إسرائيل يجب أن ينطلق التفكير في هذا الموضوع من حاجة ومصلحة النضال الوطني الفلسطيني، ويجب أن تتغير موجتا البث و الاستقبال لدى الفصائل الفلسطينية المختلفة لصالح الاتفاق فورا على قيادة سياسية موحدة تنظم النضال، فالحوار ليس استراتيجيا وهو على كل حال لم يعد يكفي، ولا يفي بأغراض العمل الوطني في هذه المرحلة الخطيرة. وقد يتطلب النضال الوطني في هذه المرحلة إضافة إلى توحيد وترشيد الخطاب السياسي الموجه نحو العرب ونحو الغرب إلى وقف لإطلاق النار أو إلى توقف للعمليات المسلحة من نوع معين ومواصلة المقاومة بوسائل أخرى. ولكن الترتيب يكون أولاً بالاتفاق على طبيعة التسوية السياسية الممكنة وغير الممكنة، والاتفاق على أن مرحلة شارون هي مرحلة منزوعة التسويات، ثم التفاهم على أي الوسائل يستخدم في النضال وأيها لا يستخدم بغض النظر عن رأي إسرائيل، فالمنطق الذي يجب استخدامه هو ما يدفع بالنضال الفلسطيني إلى الأمام.