ما زال البنتاغون يسيطر على البث الاعلامي بعد ان الصق بوحداته صحافيين يعتمدون اعتمادا كليا على ما يقال لهم قبل وبعد المعارك، ولا يشاركون في المعارك بطبيعة الحال. ولا يتوفر دليل مقنع واحد ان الصحافيين اوفر ذكاء من الضباط الذين يحتلنوهم، ولا يوجد سوى ادلة قليلة انهم بحكم الوظيفة والدور يجب ان يكونوا اكثر استقلالية في التفكير او اكثر تحكيما للاخلاق. ولكن الوقائع تفلت احيانا من قبضة الدعاية من ناحية والتهريج من االناحية الاخرى.
صاروخ باتريوت اسقط طائرة بريطانية، ولم ينجح كما نذكر في اسقاط سكاد واحد في سماء اسرائيل في الحرب السابقة. ليس حكيماً اذاً، صاروخ اخر سقط في ايران لا يتميز بالذكاء الخارق هو الآخر كما يبدو ومروحيات تصطدم ببعضها البعض او تسقط حال اقلاعها، وجندي امريكي يطلق النار على وحدته ولا نعرف شيئاً عن درجة ذكائه او درجة ذكاء وحدته، ولكننا اصبحنا شيئاً اكثر ذكاء حول ذكاء من يعتقد ان التنظيم العسكري المركب والمعقد والثقيل الحركة هو عبارة عن فيلم رامبو الذي يسقط مروحية العدو ببندقية غنمها من احد جنوده الخمسين الذين قتلهم طعناً بعد ان اجتاح معسكرهم وحده.
الامور على الارض ليست كما تبدو على الورق او على الكومبيوتر، والبصرة على الارض غير البصرة على الكومبيوتر او في جلسات المشاورات مع جهابذة المثقفين العرب وغير العرب الامريكيين والمستشارين في الايام الدراسية او الجلسات المغلقة مع "مثقفي" البنتاغون. لم تستسلم البصرة ولم تسقط فور ان نفخ بالبوق حول اسوارها. لقد قاسوا على التمرد الذي حصل في جنوب العراق بعد انسحاب جنوده من الكويت، ولم يأخذوا بعين الاعتبار ثلاثة عشر عاماً من الحصار لم تذنب البصرة لتستحقها، ولم يأخذوا بعين الاعتبار انه عدوان على سيادة العراق، والبصرة عربية وعراقية. والعراق دولة عربية ذات سيادة.
لم يأت الامريكان لازالة اسلحة الدمار الشامل، لأنها غير قائمة، ولا دليل على وجودها، ولا احد يريدهم ان يقيموا الديمقراطية او يصدق ان هذه غايتهم في العراق، فلماذا يغزون العراق؟ مهما كان من شأنهم بعد نهاية هذه الحرب، فأن من سيتعاون معهم لا يتعاون مع فاتحين بل مع غزاة. وهذه الحقيقة بحد ذاتها كافية لتشويه بنية واخلاقية وشرعية النظام. هكذا تولد ديمقراطية مشوهة. وهذه الحالة لا تقارن بالديمقراطية الوليدة في المانيا بعد تحريرها من النازيين في سياق الحرب العالمية الثانية التي احتل فيها الوحش النازي اوروبا كلها.
العراق معتدى عليه والعدوان يشهد مقاومة. شيء ما معطوب في عقل من اراد ان يفكر الباتريوت عنه، ناهيك عن التشويش في ملامح وتعابير المعلقين الاسرائيليين الذين اعتبروها نزهة، وتسابقوا في تقصير فترة الحرب، وتحمسوا حين عرضوا انواع السلاح الامريكي على شاشاتهم الصغيرة كما يتحمس الاطفال للعبة حرب جديدة في الكومبيوتر. لقد غادرت وجوههم الابتسامات العريضة.
انهم يدركون الان ويدرك معهم العرب في كل مكان ماذا تعني دولة عربية منظمة. ليست جرانادا ولا بنما ولا افغانستان ولا طالبان. دولة عربية مدنية ومنظمة يعلن قادتها انها دولة علمانية. لا يسهل اجتياح دولة كهذه بجيش نظامي ولا حتى بعد ثلاثة عشر عاماً من الحصار والدمار. لأنه يتوفر فينا الحد الادنى المطلوب من المؤسسات الرسمية الفاعلة والمستمرة بالعمل في ظروف الحرب. واذا كانت في حالتها البائسة الحالية تفاجيء الامريكان والانجليز واسرائيل فأننا لا نحتاج ان نعمل الخيال طويلاً لنتصور كيف كانت ستبدو الامور لو كانت هذه الدولة الحديثة موحدة وطنياً في ظل نظام وطني ديمقراطي بالحد الادنى ويوحد الشعب من خلفه.
وقد يتساءل من شاء ان يتساءل وما قيمة المقاومة العراقية للغزاة الاجانب في ظروف انعدام افقها وبديهية النصر للتكنولوجيا المتفوقة والدول الاقوى افتصاداً وعدداً وعدة، وان لم تكن العدة ذكية او حكيمة كما اعتقدوا ولا اصحابها سوبرمن؟
هنالك اهمية تاريخية للمقاومة وهي تتجاوز فقدان العديد من العراقيين لما يخسروه اذا ذهب النظام القائم لانهم مرتبطين به ارتباطاً مصيرياً، ويوجد مثلهم، كما تتجاوز تضليل الفرد العراقي بامكانية النصر. ولا ندري اذا كان الجندي العراقي ابان مقاومة الغزو والعدوان يدرك حجم المهمة التاريخية وليس من حقنا ان نطلب منه ذلك. ولكن النتيجة ان تضطر المقاومة العراقية الامريكان ان يعيدوا حساباتهم بالنسبة للعراق وبالنسبة لكل مكان في المنطقة، والمقاومة العراقية تجبر الاسرائيليين على اعادة النظر في حساباتهم بالنسبة للمنطقة عموماً، فقد نسى بعضهم درس لبنان، وهي تضطرهم ان يعيدوا حساباتهم بالنسبة لفلسطين ايضاً.
لم ينجح التضامن مع العراق في منع الحرب ولكنه وسع فسحة المقاومة العراقية وسلط الضوء على المدن العراقية والمجهر على الممارسات الامريكية. وما زال التضامن يجبر الامريكان على ان يكونوا اكثر انتقائية في اعمالهم القتالية، انهم لا يستطيعون التقدم بأي ثمن. سوف يضطرون الى رفع الثمن الذي يدفعه الشعب العراقي تدريجياً وسيزداد عدد القتلى المدنيين لأنهم سيفقدون اعصابهم بالتدريج. وسوف نرى مشاهد فظيعة. افظع ما فيها انها اصبحت مشاهد.
قلنا ان المقاومة تنفذ مهمتين الاولى رفع الثمن الذي تدفعه امريكا للاجتياح، والثانية تعيد حسابات امريكا بالنسبة للمستقبل في العراق ذاته وفي كافة دول المنطقة، كذلك فأن التضامن لا يرفع ثمن العدوان لأنه يقيده فحسب وانما يبلغ امريكا منذ الان رسالة واضحة، ليست المنطقة ساحة خلفية لامريكا ولا لاسرائيل، ولن تكون.
هذا التضامن الجاري يثبت للمرة الالف مقولة ثالثة تهمنا كثيراً: يوجد قومية عربية. لم تخرج جماهير مصر واليمن والبحرين ولبنان وسوريا للتضامن مع طالبان. ولكنها خرجت للتضامن مع فلسطين والعراق. ولا يهمني الان تحت اي شعارات. المهم ان الدافع القومي ما زال قائماً ويا حبذا لو فهمنا فقط الطاقة الكامنة هنا وكيف نربطها ببرنامج سياسي ديمقراطي ومشروع سياسي ديمقراطي بديل.