أحاولُ أن أهربَ من النبأ الحزين

إن هربتُ أنا، كيف أحزاني تهربْ

قد رحلتْ سنديانةُ النبوغِ

وإنتقلت إلى الخلودِ الموسوعةُ الأرحبْ..

سنعزي البلادَ بموتِ العظيمِ

وسنعزي النجومَ بوفاةِ الكوكبْ..

صعبٌ هذا الرثاء على جرحي بعد جفافِ النبع من أين أشرب؟

تسطيع أن تكتبَ عن شجرة معرفة، بأغصان مُحددة، بفاكهة معروفة، بجذور محدودة.. كيف تكتب عن غابة معارف وعلوم وإبدعات ومواقف وعلامات وتأثيرات وظلال كونية؟

كيف تكتب عن رجل عظيم, بحجم المفكر العبقري الفلسطيني العربي العالمي أدوارد سعيد، دون أن "تضيق العبارة" وتلف حول خصرها حزام العجز عن الإحاطة بكل مكونات هذا الثراء الإنساني غير المحدود؟ من أي باب تدخل إلى هذا العالَم العالِم، وقد أمتلكَ ألفَ نافذة للشروق المعرفي والف باب للإبداع الكوني الهائل؟ كيف سترثي رجلا وأنت ترى إلى الزمن يقرأ بإهتمام أقماره "كتبه" السبعة عشرة، فلا يستطيع ان يضيف إلبها شيئاً سوى الإعجاب بفلسطينيته الفذة، وبعبقريته النادرة؟ من يجرؤ على رثاء موسوعة من نقد وأدب وموسيقى وفكر سياسي وأدب مقارن وشمول عاقل وتأثيرات عالمية، بكل هذا الإتساع الفريد؟

هذا الرجل، الرجل الحقيقي، صاحب العقل الفعّال، الذهن المتوقد الرائد، دافعَ عن فلسطين وشعبها وقضيتها وهمومها أكثر من كل قادتها، في المدى المعرفي الشاسع، القويم، المعافى البليغ.

هذا الرجل العربي الفلسطيني، الإنساني، هذا الكنز الكوني، إنحازَ إلى البسطاء العارفين بحقهم في الحرية والإستقلال والعدالة، فكان صوتهم المؤثر، الذي ترك الأعداء من الصهاينة واعوانهم، يحاولون ان يجرحوا صداه، حقداً وغيظاً، ولم يفلحوا.. ولن يفلحوا حتى بعد غيابه.

هذا الرجل كتبَ عن عذابات ونكبات وأحزان بلاده المحتلة، فنجحَ في تحويل نزيف شعبه الفلسطيني، إلى أنصار وأصدقاء ومواقف مؤيدة للقضية الفلسطينية، كما لم ينجح، في تلك المهمة، كل السفراء والإعلاميين والكتاب العرب والفلسطينيين.. أدواته في ذلك، كانت واضحة، علمه، إخلاصه، صدقه, تفانيه, و فوقها، عبقرية لا يجود الزمان بمثلها إلاّ بمشقة وصعوبة.

والراحل الكبير البروفيسور إدوارد سعيد, لم يكن مجرد أستاذ للأدب المقارن في جامعة كولومبيا.. كان مدرسة لتنظيم و فهم الوعي بالأخر بين الشعوب. لم يجلس في برج أكاديمي عاجي, مكتفياً بالتنظير عن بعد..خياراته السياسية كان واضحة.. عضوا في المجلس الوطني الفلسطيني، كان فاعلا ونشيطا كان.. وعندما تم عقد إتفاقية أوسلو، إنسحب بهدوء.. وقف ضد عيوبها ومساوئها، وأصدرَ في ذلك عدة كتب، وكتبَ مئات المقالات السياسية، مبيناً ثغرات أوسلو و بؤس السياسة الخاطئة التي تنتهجها القيادة الفلسطينية الرسمية.

ومن منا لا يذكر ذلك الحجر/الموقف الجريء الذي رماه الراحل الكبير أدوارد سعيد عند بوابة فاطمة، ضد الجنود الصهاينة غداة إنسحابهم مذعورين، أذلاء، من جنوب لبنان؟

هل يستطيع الفلسطينيون أن يدعوا , ومعهم كل العرب، أنهم يملكون الكثير من أمثال المفكر العالمي أدوارد سعيد، إبداعاً عالمياً، ومكانة مرموقة لا تضاهى، وإسهامات متنوعة في صوغ أبنية للعقل الحديث، بالغة العمق والـتأثير؟

بالرغم من الأحوال العربية السيئة، و التي لا تسر العدو و لا الصديق! فإن مجرد ذكر إسم أدوارد سعيد كان كافياً، لإضفاء مهابة على قومية تعاني من أزمات ومشكلات يصعب حصرها..اسمه كان يضيء ظلمة الوقائع الكئيبة، فيجعل وجوه الأيام العريية أقل تجهماً. أسمه حين يقترن بفلسطين يجعلها أكثر إستحقاقاً للعدالة والحرية والإستقلال.

نحن-كفلسطينين وعرب- لم نفقد شيئاً عاديا كي يتراوح الحزن ما بين العادي والحيادي. لقد فقدنا دائرة خلق وعطاء وكوكبة من المواصفات والخصال والقدرات العظيمة يجسدها رجل واحد إسمه إدوارد سعيد.

لقد فقدنا الرجل الموهوب، الصلب، الذي كشفَ زيف و تهافت الإمبريالية وثقافتها الغازية و سعيها المحموم لتسليع عقول الضعفاء من فقراء ومستضعفي ومهمشي هذه الأرض، وخصوصا دول العالم الثالث. فقدنا الرائد العالمي في فضح مقاصد المستشرقين ومكائدهم وأطماعهم الكولونيالية، في إستعمار الشعوب العربية والإسلامية وتزوير تاريخها وكتابته مشوهاً وإنتقائياً لغايات الإساءة وسوء التقدير وعدم نزاهة التقييم. ومن هنا أنطلق "الإشراق" المبكر الواعي للمفكر إدوارد سعيد، هذا الكتاب الذي ترجم لعشرات اللغات.. أصبح مرجعا هاما لمعرفتنا بذاتنا، بعد أن وضعت هذا الذات الجمعية العربية الشرقية الإسلامية تحت نيران القراءات الغربية المتحيزة, ناقصة الموضوعية للمستشرقين الذين أثروا الدفاع عن مصالح و"ثقافات" بلدانهم ومراكزهم الرأسمالية، كي يعرفوا الآخر"نحن" ويتعرفوا عليه، كما قرروا وخططوا وصمموا أن يعرفوه!

كتابة الراحل المفكر أدوارد سعيد، كانت فاتحة للوعي بهذا الآخر الدخيل، بأهدافه غير النبيلة فكانت كتابة عاقلة، فاعلة لسعيد الكبير، كتابة فوق كتابات المغرضين.

كان الراحل فلسطينياً بإمتياز لا يقارن.. خدم قضيته كما لم يخدمها أحد. سنحزن كثيراً لرحيله، وسنظل نفخر به كفلسطيني عبقري، كعربي صميم.. لن نتمكن - مهما حاولنا- من إدراك كل أشعة هذه المعارف التي أطلقها عقله المتوقد في، المدى الإنساني الخلاق، الرحيب.