"لم يكن كافياً ما تفتح من شجر اللوز
فابتسمي، يزهر اللوز أكثر"
هكذا استقبلنا ربيع العام 2002، قررنا أن نأخذ بنصيحة درويش وأن نبتسم كي يزهر اللوز أكثر!
استقبلنا نحن "الجمهور في رام الله" الربيع الذي جاء بارداً وممطراً بابتسامات لم تقدر على أن تفتح النوار، وعاجزة تماماً عن مواجهة الانتظار..
لم تشفع الابتسامات التي كنا نتصنعها في انتظار ما قد يأتي، والطريف المخيف في هذا الانتظار، أن الفعل الطبيعي أن ننتظر باقة ورد جميلة، زيارة صديق دافئة، أو حتى وفي أسوأ الأحوال انتظار يوم كسابقه لا يحمل مفاجآت.
في رام الله كنا ننتظر، لا بل كنا نصلي لأجل رصاصة رحمة يطلقها "شارون" على جسد فتته اليأس والإحباط كنا ننتظر أن يأتي ما يقطع خيوط العنكبوت التي تعلقنا بها لشهور..
وكمن يعلم أن أصدقاءه يرتبون لحفلة عيد ميلاد مفاجئة وعليه أن يتفاجأ، فاجأنا شارون بما كنا ننتظر، فاجأنا في ليلة ربيعية واجتاح المدينة كاملة وحاصر قيادتها المتعبة في المقاطعة "السجن".
وأنا حوصرت في بيتي مع مجموعة أصدقاء لم يتمكنوا من المغادرة لحظة وقع الاجتياح. الفعل الاسرائيلي كان مريحاً، فعلى الأقل تخلصنا من الشعور القاتل بالانتظار، أخيراً عاد الاحتلال مرئياً وحقيقياً ولا داع للمعارك الكلامية لنثبت ان الاحتلال هنا وأنه لم يخرج من بيوتنا حتى بعد توقيع "أوسلو" وما سمي بفترة السلام.
لا شيء تفعله حين تجتاح الدبابات المدينة وتقف على باب بيتك، نتمترس حول التلفاز ونشاهد الشارع عبر المحطات الفضائية فقط، لم تعد تحاصرنا الدبابات وانما حوصرنا أكثر بأخبارنا التي تأتينا عبر الهواتف بعد انقطاع الكهرباء، لا شيئ نفعله في الحصار، فقط "نربي الأمل".. هكذا قال درويش وانا أصدقه دائماً وأضيف بأننا "نربي الجنون أيضاً"!
الأيام الأولى للحصار كانت الأسوأ، القتل والدمار، صوت الدبابات لا يهدأ، ولا توقعات لأي سيناريو مما كنا في لحظات الاسترخاء نحاول الاستعداد له.. صوت عرفات يأتي عبر المحطات المختلفة "شهيداً، شهيداً، شهيد" وأنا التي لم تعشق عرفات يوماً أرتجف وأشعر أن الاحتلال طوال أعوامه البغيضة السابقة، لم يكن أبشع من تلك اللحظة..
حديثنا نحن المحاصرين في المنزلين "منزلي ومنزل أختي" كان مقتصراً على الكلام الضروري فقد فقدنا جميعاً شهية الكلام، زوج أختي الذي كان حائراً كيف يصم آذان أطفاله كي لا يسمعوا الطلقات وصوت الدبابات عجز عن الهائهم بأفلام الفيديو، أو الضحك عليهم باللعب تحت المكتب ليكون ملجأ عندما يشتد القصف.. لم يعد بالامكان اخفاء الخوف الظاهر علينا جميعاً، لم يعد بالامكان الكذب عليهم بأن الدبابات تذهب للنوم ليلاً..
وداليا الصغيرة ذات الأعوام الست فقدت الرغبة في الخروج إلى الحديقة، كانت ترفض النوم بدون الحذاء الذي التصق بقدميها..
داليا بدأت تجن من الخوف والالتهاء بها وبتهدئتها لم يجد نفعاً، تستيقظ صباحاً وهي تدعو الله أن يقلبها إلى نملة لتختبئ في جحر يخفيها عن أعين الجنود إن اقتحموا البيت.. !
تعيد التفكير مرة أخرى، فالنمل يشعر كما الإنسان، وتبدأ صلاة جديدة تدعو الله أن يحولها إلى حائط! فلو اقتحم الجند البيت أو قصفوه لن تشعر بالألم فهي جماد لا يحس هكذا علموها في المدرسة..
كنا نستفيق على أحلام الصغيرة التي كان ذهنها يعمل سريعاً في اختراع أمنيات جديدة..
فيصل الصغير واصل الابتسام وبقي دواءاً لساكني المنزلين نشتفي به كلما داهمنا اليأس وغزا عقولنا الجنون!
الأخبار تتوالي وتتساقط كما القنابل والاحتلال يواصل توغله واحتلاله لباقي مدن الضفة، ننسى رام الله والقيادة المحاصرة، ونتابع جنين ونابلس وما يحل بهما.. ونتابع أيضاً العالمين العربي والإسلامي، يتسرب الفرح لقلوبنا قليلاً ونبكي قليلاً ونحن نتابع العالم العربي ينتفض هنا وهناك.. نشتم ونسب ونحن نرى قمع الأنظمة لشعوبها، وعرفات الذي يخاطب الشعب العربي من فوق رؤوس أنظمته نجح في إيصال صوته الذي خفت منذ وقُع "أوسلو"..
نتابع كل شيئ، ونبحث عن الحياة، نبحث عنها في الإشارات التي قد ترسلها السماء، ولدت قطة داليا وكانت اشارة خير، نفذ الطعام من البيت ولم نخف كثيراً، فلدينا اليوم مجموعة قطط قد تحل أزمة الطعام إن اضطررنا لذلك.. لكن الحياة لم تكن مسألة أكل وشراب، كنا نبحث عن الأمل وأيضاً عن حلم لم يأتنا لا في اليقظة ولا أثناء النوم المتقطع!
نتابع الأخبار ونتوتر أكثر.. الامتناع عن الكلام لم يعد كافياً لاخفاء التوتر والخوف الذي نشعر بهما.. بدأت أبحث عن سبب لمشادة مع أختي الصغيرة أو أحد أصدقائي، رغبتي في ضرب أحدهم أخذت تتصعد وبالذات أثناء مراقبة المتصلين العرب بالفضائيات "جميعهم يدلون بفتواهم" ونحن الذي يفتى بأمرنا لا صوت لنا!
نتابع الأخبار والإعلام العربي الذي يعتاش على دمائنا.. قررنا أن نتوقف عن متابعة الأخبار وأن نكتفي بما ينقله لنا زوج أختي مدمن الأخبار في الوضع الطبيعي.
لا شيئ نفعله سوى لعب الورق، والحديث في الاشيئ!
وأنا وجدت اختراعاً جديداً من أجل بعض التسلية، عدت لقراءة قصائد محمود درويش الذي كان يربي الأمل وتركني أربي الجنون.. وهذه المرة ولكي أعاقب الجميع أجبرتهم على الاستماع لي ألقي قصائداً لمحمود درويش حول الحب والأمل والحياة، أصبحت هذه هي التسلية الوحيدة لي والتعذيب الدنيوي لأختي التي زهقت مني ومن أشعار درويش.. وأنا أقرأ أكثر وأزداد جنوناً، وأدعي فيما أدعي أن محمود درويش قد كتب كل قصائده لي أنا حتى قبل أن أولد.. هو لا يعلم ذلك، ولكنه وحين يراني سيدرك أن المرأة التي هي "امرأة .. لا أقل ولا أكثر" هي أنا.. أقرأ أكثر وازداد جنوناً وأدعي أن كل الشعراء على هذه الأرض ومنذ أن أمسكوا أقلامهم الأولى كانوا يكتبونني، فأنا كل النساء في امرأة واحدة "نعم أنا هي"!
وأدعي أن الحصار كان فرصتي لهذا الاكتشاف العظيم... لم يبق أمامي إلا انتظار انهاء الحصار، لأحمل نفسي وأدق باب درويش الذي لا يبعد عن بابي إلا أمتاراً لأخبره باكتشافي... جميل هذا الشعور!
ولكن أن تكون مجنوناً وسط عالم العقلاء أمر لا يحمل من الجمال شيئاً.. وأنا لا أريد أن أعقل! فكيف سيجنون هم؟
فكرة الدبابة الواقفة على الباب لم تعجبني أبداً، والهمس الذي كنا نتحدث به كلما اقترب الجنود من الباب لم يعجبني أيضاً.. هل هو الخوف الذي يبعث على الهمس؟ الجنود يعلمون أن البيوت مسكونة بأحياء مثلنا، الجنود يعلمون أن لدينا أطفالاً تصرخ وتلعب، ويعلمون أيضاً أن هناك أزواجاً يحتفون بحياتهم أو لنقل آخر أيامهم... فلم الهمس إذن؟ هل سيأتي الجنود لقتلنا لأننا نمارس فعل الحياة الطبيعي؟ إذن نحن لا نهمس خوفاً من أن يكتشفونا، نحن نهمس حتى لا نستفز الجنود ونذكرهم بأن هناك وفي مدن أخرى لا زال العالم يمارس الحياة، وأن أهل تل أبيب ينعمون بالهدوء، وأن أطفال المستوطنين يلعبون ويصرخون حول أهاليهم، فيما يسكن هؤلاء الجنود دبابات تحاصرهم هم قبل أن تحاصر الفلسطينيين.. نهمس كي لا ننعش ذاكرة الجندي المحتل.. إذن لسنا بحاجة لرصاصة لتخويف جندي يحتمي بسلاح أمريكي، كل ما نحتاجه الآن هو أن نغني، أو على الأقل أن نرفع أصواتنا!
جنون جميل فليجن الجميع، قمت باعداد العشاء لضيوفي وحدي، يجب أن يكون عشاء شاعرياً وفاخراً محاطاً بشموع شاعرية وموسيقى فاخرة!
وهكذا كان، بدا الأمر وكأننا في أحد المطاعم الباريسية.. وليذهب ساكنو الدبابات إلى الجحيم.. علت الموسيقى أكثر، ضحكنا أكثر وبدا وكأننا نخرج من القبر إلى الحياة مرة أخرى.. دخلنا باب الحياة وتركت الدبابة باب بيتنا!
عدنا للتمترس حول أجهزة التلفاز بعد جرعة الحياة التي أخذناها، هذه الجرعة لم تتمكن من التحول إلى مضاد لأسهم الكره والحقد الذي يطل علينا عبر الفضائيات وبالذات بعد صفقة بيت لحم التي جرى فيها ابعاد المقاومين بموافقة فلسطينية، وبعد القصف الذي تعرض له مبنى الأمن الوقائي في رام الله وظهور القيادة الفلسطينية في موقع اتهام شعبي وصل فيه الأمر لحد اتهام الجميع بالخيانة!
عرفات الذي تحول إلى قديس قبل أيام يتحول في لحظات إلى خائن وعميل ولا يستحق الحياة، هكذا ينقلب الحال في العالم العربي، لا مجال للعقلانية، ولا مجال للجدل، دائماً نقف على أحد النقيضين.. أعدت المحاكم للقيادة الفلسطينية وللشعب الفلسطيني وعلقت معها المشانق "فلم المحاكمات الشكلية؟" لقد صدر الحكم وقضي الأمر..
نحن في رام الله وباقي مدن الضفة المحاصرة والمذبوحة كنا ننظر للمشنقة المعلقة ونزداد غضباً، لم تسعدنا الطريقة التي تم بها التعامل مع الشباب في كنيسة المهد، ولم تعجبنا الطريقة التي تم التعامل بها مع مقر الأمن الوقائي، ولكن أيضاً لم تعجبنا الطريقة التي جرى محاكمتنا بها عربياً، لدرجة أننا ظهرنا وكأننا شعب لا يستحق الحياة وقيادة تستحق القتل..
وفي لحظة حقيقة تساءلت لو ترك الأمر لأي قائد في العالم، ووقف بين خيارين الحكم بالموت على أتباعه أو النفي؟ لو كنت أنا هذا القائد لانتصرت للحياة!
عرفات الذي ترك ليقاتل وربه لم يملك خيارات ليختار أو بالأحرى ترك بين خيارين إما أن يموت ونموت وإما أن يموت ونموت فاختار أن يحيا!
العالم العربي الذي أراد لنا أن نكون خط دفاعه الأول، وأراد لنا أن نموت ليحيا هو، وأرادت قيادته أن نمد اجسادنا جسراً للوصول إلى قاعدته التي تبغضه، يريد أن يملي علينا الموت وعلى طريقته هو.. الذين وقفوا لمحاكمة عرفات لم يتجرأوا بالسؤال أين اختفت القيادة العربية جميعها أثناء حبس الرئيس؟ هم أيضاً حوصروا، هم أيضاً تمنوا أن يخرج وراية بيضاء في يده لينتصروا هم!
عرفات صمد في سجنه، ونحن صمدنا نربي جنوناً بأن ينقلب العالم ويعود إلى رشده!