بالنسبة لي، وخلافا لكثيرين فيما أحسب،، فقضية مثل الارهاب تذهب في أسبابها وحيثياتها الى ما هو أبعد وأعمق من كونها ناتج تصدير أو تفريخ للقضية من الدول المنهارة والفاشلة، وبالتالي لم أقدم على تأليف كتابي الذي يتناول «بناء الأمة.. الترياق طويل الأمد للارهاب» على تلك الخلفية، لأن القضية وما أسلفت تتعدى مثل تلك اللافتة العريضة لترفع في مكانها تساؤلا أكثر رحابة وأراه حيويا وهو: لماذا لم تستطع بقية دول العالم الثالث بدءا من شرق آسيا ومرورا بأميركا اللاتينية وأفريقيا ونهاية بالشرق الأوسط أن تحقق تنمية. وهنا أنبه الى الإجابة التقليدية، أو قل القديمة، وهي أن ما تحتاجه الدول غير النامية هو تأسيس منظومة من سياسات السوق (هذا هو اجماع واشنطن) ومن هنا تكون قد وضعت نفسها على بداية طريق التقدم.
وأقول إن مثل ذلك الافتراض يصدق فقط على الهند، وهي الحالة الوحيدة التي توجد فيها المؤسسات الحاكمة والفاعلة على أرض الواقع، ولكن، ومع ذلك، والى وقت قريب، كانت السياسات الاقتصادية هناك مضادة للانتاجية، ومن بعد، وبتحرير السوق، فالهند اليوم ترفرف استعدادا للاقلاع في العشرين عاما القادمة تماما كما فعلت الصين.
ومن هنا فحقيقة الأمر في هذا الشأن تعود الى أن المشكلة الأساسية مع معظم دول العالم الثالث في معظمها سياسية، إضافة الى مؤسسات سيئة، وإدارة حكم سيئة أيضا. وهذا هو الفضاء الذي ظلت تقلل من شأنه نظرية التنمية، لأن التنمية تتطلب وقبل كل شيء حكما. وبهذا أعني كل محاور الأداء في المجتمع تلك التي لا يمكن خصخصتها، والتي لا يمكن أن يضطلع بها السوق وحده، لأن هناك حكم القانون، وحماية حقوق الملكية، وحماية حقوق الفرد، والأمن الطبيعي، والبنيات الأساسية. ومن هنا فالمشكلة المهيمنة في العالم الثالث ليست في الحكومة فقط، وإنما في حكومة غير كفؤة أو لا حكومة على الاطلاق. ومن هنا وإذا ما كان لنظرية«نهاية التاريخ» أن تتحقق، فلا بد من ابتعاث لمؤسسات الحكم الكفؤة الى حيز الوجود، ومن هنا أيضا تجئ أهمية «بناء الأمة».
وفي مداخلة ذات صلة أستطيع القول إنني لست مع القول بالمطلق بأن الدولة ومن أجل أن تنمو، لا بد أن تكون ديمقراطية، لأنه وقبل أن تحصل على ديمقراطية لا بد لك أن تحصل على حكومة ودولة قائمة يكون بوسعهما تقديم الأمن والأسس الاقتصادية، ومن هنا يمكن أن تكون الدولة متسلطة وشمولية، ومع ذلك تنمو. وأشير هنا الى أن معظم دول شرق آسيا قدمت الكثير وهي تحت الحكم الشمولي، ولا ينفي ذلك بالطبع أن اشكاليات المشاركة تظل قائمة ومتفاعلة مع نسب الرفاه وقضايا أخرى. وإذا قلنا هنا إن الحد الأدنى في هذا السياق لدخل الفرد هو 6000 دولار، فعند الوصول لمثل ذلك المستوى تكون الدولة قد تحولت من كونها زراعية ومصدرة للمواد الخام الى دولة متحضرة وصناعية. وعندها تقل رغبة الناس في التسامح مع الاتوقراطية والشمولية، وكما نرى فالمسألة ليست في الحصول على الديمقراطية ليعقبها اللاستقرار لأن الديمقراطية هي أساس الشرعية ولكن في المجتمعات الحديثة. ونحن نرى ذلك اليوم في هونغ كونغ حيث دخل الفرد تعدى كثيرا الـ 6000 دولار ليصل الى 25000.
وأحسب هنا أن مجازفة الادارة الاميركية بمحاولتها إعادة بناء العراق تصب في هذا الاتجاه، ومأزقها هنا أنها لم تستبق الشكل الذي يمكن أن تكون عليه الدولة بعد سقوط صدام، وأقرأ هنا تفاصيل كبيرة مثل الفراغ الذي انحدرت فيه طاقات ادارة الدولة، وأقرأ أمورا أخرى صغيرة مثل الموارد البشرية المطلوبة لخدمات المياه والتلفونات وضخ النفط.
أضف الى ذلك أن ادارة بوش قد فشلت كليا لجهة استباق ما سيكون عليه الحال مع مسألة إختفاء البوليس، وهو ظاهرة عالمية في معظم أوضاع ما بعد الصراعات، مع أن ذلك فشل لا يغتفر، ومن هنا لا أظن أن بوسع أميركا أن تزرع في العراق الحكم الجيد والديمقرطية عن طريق التحكم من بعد، وهذا هو عين السبب الذي جعلني غير متحمس منذ البداية لفكرة الغزو، فالسجل التاريخي يوضح أن نماذج بناء الدولة أو الأمم كانت ناجحة في كوريا الجنوبية واليابان والمانيا لأن القوات الأميركية قد بقيت هناك على الأقل لمدى جيلين أي 40 أو 50 عاما، فيما تقدم لنا نماذج بقائها لخمس سنوات أو أقل العكس، وهاييتي أفضل مثال لجهة عدم حصول الدولة مع النموذج الأخير على التغيير المستدام، دعك عن حصولها على ما هو أسوأ.
ومن هنا، وإذا ما كان لذهابنا الى العراق أن يقوم على مفهوم البقاء الطويل، فسيكون من الممكن تحقيق شيء، وللأسف ليس ذلك هو الحال، أضف الى ذلك فقدان ادارة بوش للتخطيط الذي أورثها فقدانا آخر في الجدية مع ملابسات اتخاذ قرار الحرب. ولا أريد لمثل هذا القول أن يلغي كلية فكرة وجود حقب زمنية يكون فيها من المصلحة العالمية بل والاميركية الاقدام على النوع الصحيح من الالتزام ببناء دولة.
وبالعودة لموضوع الارهاب. وعلى خلفية أحداث اسبانيا، ووصول دول مثل المانيا وفرنسا والمفوضية الاوروبية الى أن استراتيجية الاتحاد الأوروبي تجاه الارهاب هي استراتيجية استباقية تعنى بالمشاركة الاستباقية على خلاف الحرب الاستباقية (عقيدة بوش)، أقول هنا إن ذلك يقترب من أفكاري عن بناء الدولة، بتحفظ واحد، هو: إذا لم يكن ذلك القول من تلك الجهات من باب الشعارات السياسية. ولنا أن نسجل هنا المفارقة التي تصاحب العنف بصورة عامة. والمعروف هنا أن من الصعب استباق أي انفجار للعنف أو انفجار للا استقرار، ولكن وفي المقابل أيضا، فهو نفس ذلك العنف أوذلك الانفجار الذي يمكن من تحريك الاجماع والموارد لأن تعمل لجهة التفاعل مع ما يحدث، ومعلوم هنا ومن الناحية السياسية، أنه من غير الوارد أن تعمل الحكومات الديمقراطية في فضاء تجريدي، أي بلا وقائع ماثلة للفوضى والعنف.
والأوربيون يفتخرون بأنفسهم بمنهج «قوتهم الناعمة» تجاه المشاكل العالمية، وللعلم فبناء الدول يتناغم مع ذلك المنهج، فيما ذهبت أميركا مع قضية بناء الدول بالمسار الآخر «القوة الخشنة»، وبالتالي نشأت مفارقة أخرى هنا، شهدنا معها ذهاب أميركا للمعارك لتقوم بكل أعباء القتال ليأتي الأوروبيون من بعدها للقيام بأعمال النظافة وإعادة البناء.
وأخيرا، فالقول بذلك ليس من باب وضع فارق بين القوتين، لأن الثابت أنك لا يمكن أن تنجز الا بهما معا، ومن أجل هذه الحقيقة يكون لزاما على أميركا أن ترمم علاقاتها التحالفية التي دمرها استخدام نموذج واحد من القوة، ومع ذلك، ونزولا عند مبدأ تجانس القوة، فليس بوسع أميركا أن تترك كل الأعباء الناعمة للاوروبيين أو اليابانيين وحدهم، ولذلك فما نحتاج اليه في اميركا هو تكميل العضلة الاميركية بالتزام أكثر جدية تجاه فلسفة بناء الدولة. - الشرق الأوسط -