«هكذا جاء العراق بعد افغانستان والبلقان والشيشان قبلة للإرهابيين والمرتزقة، ولكن من الصعب الربط بينهم وبين المقاومة».
مضى عام ونيف منذ بدء احتلال العراق، لكن كم من الاحداث الكثيرة التي جرت خلال مثل هذه الفترة الوجيزة. ومن الممكن هنا تناول انهيار مجموعة كبيرة من حسابات الولايات المتحدة الاميركية.
فعلى صعيد الخطأ الأول كانت واشنطن في حاجة الى «برهان» لا يرقى اليه الشك. الى أدلة دامغة تبرر قرارها حول احتلال العراق رغما عن ارادة الامم المتحدة والمجتمع الدولي. لقد كانوا في واشنطن يعتقدون ان ما يقومون به سوف يلقى في نهاية المطاف تقديرا ايجابيا وكأن العراق يمتلك اسلحة الدمار الشامل، فيما إذا كان خبراء الأمم المتحدة لم يعثروا على شيء فكأن ذلك يعود الى عدم قدرتهم على البحث بشكل جيد. في المقابل وكأن جنود الولايات المتحدة وحين يدخلون ارض العراق فإنهم لا بد وان يعثروا على تلك الاسلحة ليثبتوا للعالم بأسره مدى مسؤولية وشفافية أولئك الذين اصدروا امر احتلال هذا البلد. فماذا كانت النتيجة؟
لقد قرر الجنرال ديفيد كاي رئيس مجموعة المفتشين العسكريين الاميركيين الاستقالة بعد ان استغرقت عملية البحث عن اسلحة الدمار الشامل شهوراً طوالاً داخل الاراضي العراقية، وقد اقدم على اتخاذ مثل هذا القرار، على ما يبدو، حتى يتسنى له الحصول على حرية التصريح علانية بأنه لم يستطع العثور في العراق على شيء، مما قد يثبت وجود اسلحة نووية أو كيماوية أو بيولوجية في هذا البلد.
وعلى صعيد الخطأ الثاني، فثمة من صوّر احتلال العراق امام الرأي العام بأنه خطوة مهمة في النضال ضد الارهاب الدولي. لقد ضيع الذين دبروا عملية الاحتلال الكثير من الجهد من أجل ترويج فكرة ارتباط النظام العراقي مع «القاعدة»، أي بتلك المنظمة الارهابية التي دبرت ونفذت الجريمة الدموية في الحادي عشر من سبتمبر 2001.
لقد تسبب النظام السابق في بغداد، وبغير شك، في الكثير من الشرور لشعبه والبلدان المجاورة، لكن احدا لم يعثر على اي دليل يؤكد ارتباط هذا النظام مع «القاعدة». وعلاوة على ذلك، حتى اذا افترضنا ان الذين قاموا بالعملية العسكرية في العراق كانوا يستهدفون التخفيف من حدة الارهاب الدولي، فلم يستطع هؤلاء تحقيق ما كانوا يصبون اليه. فقد تحول العراق بعد الاحتلال الى أحد مراكز المجموعات الارهابية الدولية. وهكذا يجيء العراق في اعقاب افغانستان والبلقان والشيشان، حيث يقصده الارهابيون المرتزقة من ممثلي مختلف المنظمات الدولية، في محاولة للعثور على «وكر» يحميهم. ومن الصعب الربط بين هؤلاء وبطبيعة الحال وقوات المقاومة.
أما الخطأ الثالث فيجيء من حساب ان الشعب العراقي سيرحب بقوات الاحتلال بوصفها قوات تحرير. لكن الواقع حوّل «الترحيب» الى مقاومة مسلحة يتسع نطاقها ليشمل فئات جديدة من الشعب العراقي. ولعل الشعب العراقي اعتبر الاحتلال الاجنبي للبلاد شرا أكثر حتى بالمقارنة مع النظام السابق في بغداد. لقد كان ثمة من يتصور انحسار المقاومة بعد اعتقال صدام حسين. وهذا لم يحدث، مما يؤكد بما لا يدع مجالا للشك ان الفئات العريضة من الشعب العراقي التي لا تقبل الاحتلال الاجنبي هي التي تناهض وبالدرجة الاولى قوات الاحتلال وليس انصار النظام المخلوع. ويجيء الخطأ الرابع في استناد البيت الأبيض، فيما يبدو، على ان اعادة بناء العراق لن تشكل صعوبات تذكر، فاعتمد في البداية على المهاجرين السياسيين الذين غادروا البلاد ابان سنوات نظام صدام حسين والذين يعتقدون انهم سيقودون ماكينة الدولة المدعوة الى بلوغ استقرار الاوضاع في البلاد، وكانت النتيجة ان أولئك المهاجرين السياسيين عادوا، ولكنهم، وكما اتضح لاحقا، ركزوا نشاطهم على الصراع فيما بينهم بينما بدا دورهم في تسيير امور البلاد ضئيلا نظرا، وببساطة لأن أيهم لا يملك سندا شعبيا.
أما الخطأ الخامس فيكمن في انه، بعد ان اصبح واضحا ان المهاجرين العائدين لا يصنعون مناخا مواتيا، في الوقت الذي استند فيه الصراع ضد قوى الاحتلال الى «الثلاثي السني»، ظهر من حاول اللجوء الى الشيعة العراقيين في محاولة «لتحييد» السنيين. وللحقيقة فقد كان الشيعة العراقيون، الذين يشكلون غالبية سكان العراق، ابان حكم صدام حسين مكبوتي الحريات. ولذا فقد اعتقدت القوى التي اطاحت بنظام صدام حسين تحديدا في امكانية الاعتماد على دعم الشيعة. غير ان الامر لم يكن بسيطا الى هذه الدرجة، فقد تنامت بين السكان الشيعة مشاعر عدم مهادنة الاحتلال الاجنبي، ولذا فإن الانتفاضة الشيعية التي نشهدها خلال هذه الايام تؤكد ان الاوضاع في العراق تتحول الى مستوى نوعي جديد.
وأخيرا فها هو تدهور الاوضاع في هذه البلاد ماثل للعيان، وربما يسفر عن انفراط تكامل العراق، الامر الذي ينذر بالخطر الدائم الذي يهدد الامن والسلام. فالعراق يتحول الى لغم قد يفجر كل منطقة الشرق الاوسط، ولعله من المثير للمخاوف في مثل هذا الصدد رد فعل الولايات المتحدة تجاه التحول الذي طرأ على الاحداث في العراق. فاعتبار الزعيم الشيعي مقتدى الصدر، مثلا، خارجا عن القانون، واصدار أمر اعتقاله، وكذلك العمليات التأديبية في الفلوجة والناصرية، يمكن ان يصب المزيد من الزيت على النار. ولعل المخرج الوحيد من مثل هذا الوضع العصيب يمكن ان يتمثل في بعثة الامم المتحدة. كبديل لنظام الاحتلال. وكان كوفي انان الامين العام للامم المتحدة قد زار موسكو خلال الايام القليلة الماضية وتأكدت من خلال حديثي معه انه ايضا يأمل في ان تستطيع الامم المتحدة القيام بما من شأنه المساعدة في تحقيق الاستقرار هناك.
غير ان استبدال نظام الاحتلال في العراق ببعثة الامم المتحدة لا يمكن ان يتم بين عشية وضحاها نظرا لأن الوضع الراهن هناك لا يساعد على ذلك. فلا احد يريد فتح الباب على مصراعيه أمام حرب اهلية في العراق. وبالتالي فإن استبدال نظام الاحتلال ببعثة قوات حفظ السلام يعتبر عملية يمكن ان تخلق، وبطبيعة الحال، الظروف الملائمة لنقل السلطة في البلاد بشكل نهائي الى العراقيين انفسهم، لكن يجب البدء في هذه العملية، على ما يبدو، اعتباراً من اليوم. - الشرق الأوسط -