ما أن اندلعت أحداث غزة يوم 16يوليو (تموز) الحالي، (خطف مسؤولين، خطف أجانب، مهاجمة مراكز أمنية وحرقها)، حتى بادر كثيرون للقول استنتاجا، إن محمد دحلان، الوزير ومسؤول الأمن الوقائي السابق، هو الذي يقف وراء الأحداث. وساهمت بذلك وكالات الأنباء، ومحطات التلفزيون، والصحف، عربية وأجنبية، حتى أن صحيفة الفايننشال تايمز البريطانية، خصصت نصف صفحة في عددها الأسبوعي مع رسم كاريكاتوري كبير، لمقال يحمل العنوان التالي: هل يتمكن محمد دحلان من إسقاط ياسر عرفات؟
أما في أوساط السلطة الفلسطينية، فإن أحدا لم يتحدث رسميا عن محمد دحلان ودوره، وتركت المهمة لأقوال «المطلعين» و«المقربين» الذين تحدثوا عن الأمر بصراحة كاملة، فقالوا نقلا عن المسؤولين الكبار، إنهم ينظرون لما حصل باعتباره أمرا خطيرا، فهو نوع من الانشقاق داخل حركة فتح، يشبه انشقاق العام 1983 الذي قاده أبو خالد العمله وأبو موسى.
ما الذي جعل اسم محمد دحلان يتصدر الأنباء والتحليلات، مع أن الرجل لم يعلن، في حينه، أي موقف، وهو لم يبادر، في حينه، إلى أي نشاط علني؟
لقد طرح الموضوع رسميا وعلنيا قبل عامين، عند بدء مطالبة الرئيس ياسر عرفات بالإصلاح. كان الإصلاح مطلبا فلسطينيا وعربيا ودوليا، ولكن كل جهة كانت تفهم الإصلاح بطريقة تختلف عن الآخرين. وبرز في خضم ذلك إصلاح يتركز حول إقصاء الرئيس ياسر عرفات، أو تحويله إلى مجرد رمز لا يملك أية صلاحيات للحكم. وتطور الأمر إلى المطالبة باستحداث منصب لرئيس الوزراء. ثم تطور إلى المطالبة باستحداث منصب وزير الداخلية، وإسناد مسؤولية الأجهزة الأمنية إليه. وأبدى عرفات استعدادا للتعامل مع هذه المطالب كلها، إلى أن برزت مسألة المضمون السياسي للإصلاح المطلوب، وكان ذلك عند إسناد منصب رئيس الوزراء إلى محمود عباس (ابو مازن). وهو رجل عرف بمعارضته للانتفاضة المسلحة، وبدعوته لوقف عسكرة الانتفاضة. كما عرف برفضه لتنظيم حمام دم فلسطيني من أجل وقف عسكرة الانتفاضة.
هنا... برز في وسط هذا الجدل، وبقوة، موضوع إسناد وزارة الداخلية إلى شخص محدد بالاسم هو محمد دحلان. وكان أبو مازن يقول لعرفات، حسب روايات العارفين: إن لدي أسبابا وجيهة لاختيار دحلان وزيرا للداخلية، ولكنها أسباب لا استطيع الإفصاح عنها. وكان دحلان يقول لعرفات، حسب روايات العارفين: إنني مفروض على أبو مازن مثلما أن ابو مازن مفروض عليك. ولم يتقدم أحد لتحويل هذه التلميحات إلى تحليل واضح ومحدد ودقيق. وترك لكل شخص أن يستنتج ما يشاء وما يريد. واستنتج البعض أن المقصود هو ترك الحرية لمحمد دحلان لكي يقوم بـ «ضرب البنية التحتية» للإرهاب، حسب التوصيف الأميركي للوضع. وهو ما لم يوافق عليه ياسر عرفات. فقبل بتعيين محمد دحلان وزيرا للشؤون الأمنية، أي وزيرا يكلف تنفيذ مهمات أمنية تطلب منه فقط. وقام بتشكيل «مجلس الأمن القومي»، الذي أسندت إليه وحده مهمة رسم السياسات الأمنية.
وعندما انفجرت أحداث غزة الأخيرة، كان الفساد هو الموضوع العلني الطاغي عليها. أما الموضوع السياسي (إقصاء عرفات، ضرب بنية الفصائل الفدائية العاملة عسكريا في الانتفاضة)، فقد اختفى وتلاشى. ومع أن موضوع الفساد أصبح موضوعا فلسطينيا أساسيا، يحتاج إلى مواجهة ومعالجة، إلا أن التساؤل حول الخلفية السياسية للأحداث، كان تساؤلا لا بد من طرحه. واللافت للنظر هنا أن محمد دحلان، كان هو المبادر لطرح الموضوع السياسي والكشف عنه. ففي خضم حديث مكثف عن الفساد، أشار محمد دحلان (مقابلة مع جريدة «الحياة»، 25 يوليو/تموز)، إلى الهدف السياسي الكامن في صلب التحرك العنفي الذي حصل. وقال «إن الفساد لا يقتصر على الجانب المالي، بل يشمل أيضا الفساد السياسي والإداري والأخلاقي. مثلا حينما تتاح الفرص السياسية للحلول، ويلقى بها جانبا فإن هذا فساد». إن هذه الفقرة في المقابلة هامة جدا. فهي تكشف عن هدف سياسي للتحرك، لا عن هدف مواجهة الفساد فقط. وهي تشير إلى إدانة شخصية للرئيس ياسر عرفات، بوصفه الشخص المتهم إسرائيليا وأميركيا بأنه رفض العروض «الكريمة والسخية» التي قدمها ايهود باراك في مفاوضات كامب ديفيد 2000. كما رفض العرض الأميركي الذي قدمه، بعد ذلك، الرئيس بيل كلينتون. وهو بالتالي، «فاسد سياسيا». وهذه هي المرة الأولى التي يتجرأ فيها دحلان، ويعلن موقف اتهام لعرفات بما يسميه «الفساد السياسي»، مع أن المقابلة مليئة بالمواقف التي تمجد عرفات الرمز، أو المواقف التي تدعوه إلى قيادة نهج التغيير.
وبسبب هذا الوضوح في خلفية الموقف السياسي لتحركات غزة، أعلنت أوساط عرفات أنها تنظر إلى ما حدث باعتباره أمرا خطيرا ووصفته بأنه انشقاق وتمرد. وبسبب هذا الوضوح أيضا، بادرت الفصائل الفدائية كلها، إلى الاجتماع في إطار (اللجنة العليا للقوى الوطنية والإسلامية)، وأعلنت موقفا موحدا، يعلن الدعوة للإصلاح ومواجهة الفساد. ويعلن، في الوقت نفسه، رفض ما جرى. ويعلن، بشكل خاص، رفض أسلوب الخطف والعنف كوسيلة للإصلاح. وشكل هذا الموقف، نقلة نوعية في الوضع المتوتر. وكان الخطوة الأولى في دفع الأمور نحو العودة إلى الهدوء، ونحو فشل الذين حركوا المشاكل في الوصول إلى أهدافهم. ثم جاء الحدث الثاني والهام عبر حركة «حماس»، التي بادر رئيس مكتبها السياسي خالد مشعل، إلى اتصال هاتفي مع عرفات وأبو مازن، حذر فيه من «الاحتكام للسلاح والقوة في معالجة المشكلات الداخلية... ودعا إلى الحوار كوسيلة لحل الخلافات». كما أن سامي أبو زهري، الناطق باسم حركة «حماس» في غزة، أعلن أن الإصلاح «يجب أن يأتي وفق رؤية فلسطينية، وبعيدا عن أي تدخل أجنبي». لقد شكل موقف «حماس» هذا، علامة فارقة في مجرى التطورات. فالكثيرون كانوا يتوقعون الا تكون «حماس» معنية بخلافات تحدث داخل حركة «فتح»، ومن المرجح أن تقف على الحياد في أي خلاف ينشأ. لكن موقف «حماس» المتميز هذا فاجأ الكثيرين، وناقض توقعات الكثيرين، وعبر عن نشوء تحالف عملي بين «فتح» و«حماس» ضد العنف الذي مورس. وهو تحالف لا يمكن لأحد أن يتجاهله حين يريد أن ينشط في قطاع غزة، وبغض النظر عن اتجاه نشاطه. وقد لعب هذا الموقف أيضا، دوره في فشل التحرك، وفي عودة الهدوء إلى القطاع. وتم تأكيد أن التحرك الذي تم هو تحرك معزول وسيبقى معزولا.
ولكن أكثر ما يشغل بال المعنيين بالوضع في قطاع غزة، هو بروز الظاهرة المناطقية، والتي تتحدث عن قطاع غزة ومصيره، بعيدا عن الحديث عن الضفة الغربية ومصيرها. وهي ظاهرة من شأنها أن تشق الوحدة الوطنية الفلسطينية في إطارها الشعبي. وتحرك هذه النزعة، القوى التي حركت أحداث العنف ورفعت شعار مواجهة الفساد. ويستند هذا الموقف إلى خلفية سياسية تتعلق بمشروع شارون للانسحاب من غزة من طرف واحد. فبينما تحاول القيادة الفلسطينية أن تربط بين الانسحاب من غزة وبين انسحاب آخر يتزامن معه من الضفة، يقول أنصار التيار المناطقي الجديد هذا: حتى لو لم يتم أي انسحاب من الضفة، فلا بد من البحث بمصير غزة على انفراد. ولا بأس من تطوير الوضع إلى إنشاء إدارة خاصة لقطاع غزة. ومن شأن بروز هذه النزعة، أن يزيد من تلاقي القوى الفلسطينية التي تلاقت ضد العنف وتفجيره، ولكنها تهدد في الوقت نفسه ببروز حساسيات مرضية لا تفيد أحدا. - الحقائق -