اسرائيل تنسحب من بيت حانون، والقاهرة تجري مباحثات "عملية" مع حكومة شارون حول مستقبل قطاع غزة بعد الانسحاب منه في وقت تتحدث فيه العاصمة المصرية عن اتفاق تم ابرامه بين القاهرة وحركة حماس خلال الزيارة التي قام بها وفد رفيع المستوى مؤخراً برئاسة رئيس المكتب السياسي للحركة خالد مشعل، وبينما تقول حماس ان ما جرى في القاهرة "حوار" وليس "اتفاقاً"، فإن العاصمة المصرية تشير الى اربعة اشتراطات للعب دور في تسهيل مهمة القوات الاسرائيلية في الانسحاب من القطاع، وهي ذات الشروط التي سبق لاسرائيل وان رفضتها، والتي تسببت في الغالب في تراجع التحرك المصري، وعلى ما يبدو ان المؤشرات الاخيرة، تفيد ان اسرائيل قد وافقت على الاشتراطات المصرية وانتظام المرور على المعابر، ذهاباً واياباً، يسهم في التأكيد على ان الانسحاب الاسرائيلي من بيت حانون، جاء اثر تحقق الاهداف السياسية من وراء اجتياح البلدة، وكمؤشر على بداية مرحلة جديدة لاحظنا خلالها، غياب الرشق الصاروخي على اسرائيل، حتى قبل ان تبدأ الدوريات الشرطية الفلسطينية عملها، اي ان وقف القصف جاء تلبية لحاجة سياسية، وليست ميدانية او عسكرية.
يمكن لنا اليوم، تحديداً، تلمس طبيعة هذه المرحلة، ففي الاسبوع القادم يلقي الرئيس عرفات خطابه الموجه الى الشعب من خلال المجلس التشريعي، من المفترض ان يتناول فيه المستجدات السياسية، خاصة تداعيات الانفلات الامني وربما طبيعة التحرك الداخلي الفلسطيني نحو الاصلاح، اي ان الرئيس قد يتحدث عن طبيعة الازمة وآفاق الحل، في وقت يتحدث فيه البعض عن عدم وجود ازمة اصلاً، خطاب الرئيس، قد يتناول مسألة التعديلات الوزارية المقترحة، والتي قد تشمل تغيير عدد من الوزراء الحاليين المتهمين بالفساد، وربما لن ينسى الرئيس ان يعيد تأكيده على تبني خطة الاصلاح التي سبق وان رفعها المجلس التشريعي، والتي شكلت المبرر لعودة حكومة قريع عن استقالتها، مثل هذه النقاط، تعكس طبيعة الوضع المتأزم، لكنها تعكس في ذات الوقت ارادة سياسية بالخروج منه عبر ادوات فعالة، تعيد للعلاقة بين الحكومة والرئاسة توازناً ظل مفقوداً في مراحل سابقة.
وباعتقادنا ان تناول الرئيس لهذه المسائل الهامة، لا يعفينا من مطالبته بفتح آفاق العملية التفاوضية بعد توفير ارضية وطنية تقوم على مبدأ الشراكة في القرار بين مختلف اطياف المجتمع الفلسطيني، نطالب الرئيس باستعادة زمام المبادرة من جديد في مواجهة خطة شارون ومخاطرها بالاستناد الى البرنامج الوطني الفلسطيني، باعتبار أن الخطة التي حملت اسم رئيس الحكومة الاسرائيلية، لا تزال هي "الخطة الوحيدة" التي يجري الحديث من حولها وعلى ارضيتها، حتى ان المجموعة الرباعية اعتبرتها - في افضل الاحوال - بداية لتنفيذ خارطة الطريق، مع انها ليست كذلك، نتوقع من الرئيس ان يعلن للملأ خطة فلسطينية واضحة ودقيقة وشفافة، للرد على كل من يعتقد ان الخطة الوحيدة المطروحة في السوق التفاوضي، او للتنفيذ من جانب واحد، هي خطة شارون، خطة فلسطينية تكذب الادعاء حول عدم وجود شريك فلسطيني، ولكنه شريك يعتمد على طاقات مجتمع فلسطيني متكامل، ومن خلال شراكة حقيقية ومؤسسات نظام سياسي، قادر على استنهاض الطاقات الوطنية الهائلة لصالح البرنامج الوطني الشامل، وباختصار، شريك فلسطيني قوي لأنه يعتمد على شراكة حقيقية في اطار مؤسسة فاعلة.
وباعتقادنا، ان مجمل المؤشرات التي تتالت اثر الانسحاب الاسرائيلي المفاجئ من بيت حانون، قد تعقبها تحركات على نطاق واسع، ونقصد بذلك، اللجنة الرباعية، التي تجاهلت دورها مع اشتداد الهجمة الاسرائيلية من ناحية، وتداعيات الوضع الداخلي الفلسطيني المتأزم من ناحية اخرى، وعودة اللجنة الرباعية الى العمل ضرورية من اجل تسهيل عملية الانسحاب الاسرائيلي من قطاع غزة من ناحية، وكي يكون هذا التنفيذ، وفقا لخارطة الطريق من ناحية ثانية، وهذا يعني التصدي لخطط حكومة شارون الخاصة بتوسيع المستوطنات، وهنا لا بد من الاشارة الى التراجع التكتيكي في هذه الخطة، بعد ضغط اميركي - مصري مزدوج على شارون وحكومته، الامر الذي يعكس، من بين العديد من المؤشرات، الى ان واشنطن يمكنها ان تلعب دورا مؤثرا، حتى وهي في حالة حملة انتخابية، وعودة اللجنة الرباعية الى العمل، يسهم في دعم الادارة الاميركية، بهدف زيادة ضغوطها، من هذا القبيل على حكومة شارون، في وقت تميل فيه الساحة الفلسطينية الى وضع اسس جديدة، تلبية لاحتياجات المجتمع الفلسطيني بالأساس، وكذلك، للتوافق مع المتطلبات الاقليمية والدولية بما لا يتعارض مع المصلحة العليا للشعب الفلسطيني.
وفي كل الاحوال، فنحن لا نزال ننتظر مصير المؤتمر الشعبي الفلسطيني، الذي كان من المقرر ان يعقد قبل اسبوعين، ويقال الآن انه لم يتأجل، بل الغي، لأسباب اشرنا الى بعضها في مقال سابق، وفي هذا المجال، يمكن القول ان اهمية مثل هذا المؤتمر هو اخراج الوضع الفلسطيني من حالة الاستقطاب بين الجهات والفصائل الفاعلة، الى المجتمع برمته، بحيث تصبح المطالب المرفوعة الى القيادة السياسية، ليست مجرد حصص ومنافع فئوية بقدر ما يتعلق الامر باصلاح جدي وجوهري يصادر حصص الفئات لصالح حصة عامة وشاملة للمجتمع بأسره، وبحيث لا تستقوي جهة او فصيل، من خلال امتيازاته او قدراته لتحديد عناصر الاصلاح بما يتلاءم مع الاجندة السياسية لبرنامج هذا الفصيل او ذاك، اهمية المؤتمر الشعبي، ان عقد او لم يعقد، انه يشكل البعد الثالث في عمق الازمة الفلسطينية الداخلية، تجاهل هذا البعد، يعني استمرار سيطرة المصالح الفئوية على المصالح الوطنية العامة، وربما هذا وحده كاف لكي يبرر لدى الكثيرين تعطيل، ثم تأجيل المؤتمر الشعبي، مع الادراك ان مثل هذا المؤتمر لن ينجو من سيطرة فئوية، لكنه على الاقل قد يشكل بداية، اذا ما نجحت الاختيارات والخيارات، لكي يسهم الجمهور بشكل مباشر، في الوقوف على اسباب الازمة، واشكال الحلول، بل والاسهام في هذه الحلول، فليس هناك، والحال هو الحال، ما يشير الى ان القوى والفصائل، تحاول ان تشد هذا المؤتمر لصالحها وان لم تنجح فلا داعي له، فشل انعقاد المؤتمر الشعبي، على اساس شعبي فعلي، اشارة الى ان التجاذبات الداخلية الفلسطينية لا تزال بعيدة عن ان تقوم بدورها الجاد في مسألة الاصلاح والاستقطابات الجارية على المسرح، والمتبدلة بين وقت وآخر، تشير الى ان المسألة لا تخص القيادة الفلسطينية، بقدر ما تخص الفصائل والقواعد الشعبية، والمسألة هنا، ان الجميع يجب ان يخضع لاصلاح حقيقي، بدون جدل ونقاش حول الاولويات، من القاعدة الى القمة او العكس، فالوضع بمجمله بحاجة الى ترميم، ان لم يكن بحاجة الى اعادة بناء شاملة! - الايام -