تتوالى السنون، وينتهي قرن ويبدأ آخر، وتغرق الصهيونية في الرمال العربية، وتصبح في عداد الأموات أو <<المفقودين>> ولكنها تبقى هي هي، لا تغير من هيكليتها ولا من مظهرها أو <<مظاهرها>>، فتارة تغلف نفسها بالدين، وطورا بالديموقراطية وتارة أخرى بإحياء <<التطور>> و<<التقدم>> في منطقة الشرق الأوسط. ولا يشذ شمعون بيريز عن هذه القاعدة. فرغم أعوامه الثمانين، وهو من القياديين الصهاينة منذ نعومة أظفاره، ورفيق بن غوريون، ورغم كل الأحداث والتغيرات في الموازين وانكشاف ماهية المشروع الصهيوني إن على اليهود أو العالم، يبقى هو هو، يستغيث بسياسة النعامة، ويتلطى بنفس الشعارات وكأن عقارب الزمن توقفت بعد حرب 1967، لكن مع تغيير طفيف، إذ يكتب في مطلع كتابه <<زمن للحرب وزمن للسلم>> الذي صدر في تشرين الأول عام 2003، عن دار روبير لافون باريس: <<أنا خائف على بلدي، على إسرائيل ومستقبلها، وفي هذه الأوقات من القلق الشديد، أقول في نفسي، انه في العمق، وبعد خمسة وخمسين عاما من الوجود، إسرائيل، وبعكس ما يفكر به الكثيرون من الناس، ليست بلدا ذا مستقبل مضمون كامل>> (ص 11). عن <<نظرية>> شمعون بيريز الأخيرة سنتحدث محاولين تفكيك رموزها، وهي نشرت في كتابه المشار إليه أعلاه.
العلم والأرض
كما في كتابه <<لتشرق الشمس>>، الصادر عن دار نشر اوديل جاكوب باريس عام 1999، حيث يفرغ فصلا بكامله عن العلوم ودورها وأهميتها، ليصل إلى نتيجة (ص 128127)، أن القيمة أصبحت للعقل وليست للأرض، وهي دعوة مبطنة للعرب، للتخلي عن أراضيهم. كذلك في كتابه الصادر عام 2003، وبعد أن استنفدت <<نظرية العلوم>> من قواها، وأثبتت عدم جدواها في إقناع المناضلين العرب بالتخلي عن أرضهم، <<ابتكر>> نظرية <<النانوتكنولوجيا>>، ويعطي درسا بالكامل عن هذا العلم، مفردا فصلا بكامله عنه، وشارحا مدى مساهمة إسرائيل في هذا العلم. ويتابع في الصفحة 55 <<أن المستقبل للتكنولوجيا>>. ويؤكد بيريز (ص 43) ، انه <<يؤمن بالعلوم التي لا تعرف دولا ولا تعرف حدودا>>. وهو بذلك يرى في نظرية العلوم الوسيلة التي تفتح للصهيونية الحدود التي عجزت الآلة العسكرية والسياسية الصهيونية عن دك أسوارها، والمقصود هنا الحدود العربية. ثم يصل بنظريته، بعد شرح مسهب، الى <<أن النانوتكنولجيا ستغير حياة سكان المعمورة بكاملها>>، <<والحروب بالمعنى الحالي لها ستصبح غير مرئية>>، وان <<الجيوش ستصبح بلا جنود>>. وهذا ما يتيح لبيريز، القول بأن هذا العلم <<سيخلق آلية تسليح جديدة مضادة للإرهاب>> (ص 49) التي هي همه الأساس: شاغله وشاغل اسرائيل، وينغص عيشها ثم يصل إلى نتيجة، <<أن من في استطاعته أن ينتج آلة حاسوب، غير مرئي بالعين المجردة (وذلك بواسطة النانوتكنولوجيا)، والذي (المقصود الحاسوب) يستطيع أن يتدخل بكل أنظمة الاتصالات، فهو حتما، الرابح في هذه الحرب>> (ص 50).
وهنا إشارة ضمنية الى أن اسرائيل بتفوقها التكنولوجي ستكسب الحرب على العرب عاجلاً أم آجلاً... وكأن أي تطور في العلوم لا يمكن أن يُبتكر له تطور دفاعي مقابل، علماً بأن علم النانوتكنولوجيا هو العلم الذي يفتت مادة إلى جزئيات أو يركب مادة جديدة من جزئيات، وذلك لا ينطبق على البشر. وهذا العلم الذي باستطاعته خلق أو تصغير حجم آلة معينة إلى حجم صغير، وبالتالي تغيير المعطيات، للآلات؛ ليس باستطاعته أن يكبر وأن يصغر بمعطيات حجم الإنسان. فالإنسان منذ فجر التاريخ لم يتغير، وقد يكون الكائن الوحيد الذي لم يتغير. فهو يبرد ويعطش ويجوع، وقد يخاف، ويشعر بالظلم... وهذه مقاييس لم تتغير مع تطور العلوم وبواسطة النانوتكنولوجيا، التي في استطاعتها تحويل آلة كبيرة مرئية إلى حجم غير مرئي، فهي تستطيع ذلك على الآلة ولكن ليس على البشر.
في الصفحة 54، يقول عن النانوتكنولوجيا: <<هذا التطور الذي باستطاعة إسرائيل، عندما يسود السلام في المنطقة، أن تفيد كل جيرانها منه، والفلسطيني بالدرجة الأولى>>. فالفلاح الذي اقتلعته من أرضه، لن يرضى بالتخلي عنها للمحتل، مقابل آلة النانوتكنولوجيا... وهي زيادة عن ذلك غير مرئية.
ويعود بيريز، ويؤكد في الصفحات 180، 215، 216، <<في أيامنا العلوم وتطبيقاتها التكنولوجية، استبدلت الأرض. والعلوم لا تعرف الحدود، ولا التمييز بين خادم ومخدوم>>.
ويتابع في الصفحة 216 نظريته عن العلوم بتأكيده انه في المستقبل ستصبح <<الحروب من دون معارك>> و<<المعارك من دون جيوش>>. وبهذه النظرية يهمش العنصر البشري العربي المقاوم في فلسطين، ويمني نفسه بحلم <<انتصار ساحق>> على المقاومة في فلسطين في المستقبل.
قضية وحدة الدول العربية
لا يستطيع بيريز في عرضه، إلا أن يمرر قضية تقلق باله، وهي قضية وحدة الدول العربية ووحدة العالم العربي. فيؤكد في الصفحة 88، أنه <<في الواقع، العالم العربي غير موجود، الرابط أو السبب الوحيد لوحدته، والذي سمح له حتى الوقت الحالي بأن يكون له ثبات، هو واجهة الدعم للقضية الفلسطينية. هذه الوحدة المفترضة ليست إلا ضربا من الخيال>>.
وكذلك يعود في الصفحة 201، كي يقول <<إن التدخل الأميركي في العراق برهن أنه لا يوجد عالم عربي واحد. أقصى ما يمكن قوله أن هناك عوالم عربية، مواقع عربية، بعضها ثابت (مؤكد) بوضوح (بصراحة، علنا) وآخرون مختبئون اكثر>>.
وفي الصفحة 202 يتابع: <<يقال انه لا يوجد عامل لتقسيم العرب، أفضل من فكرة وحدتهم المفترضة. إنها وحدة الواجهة التي لا تخرج عن إطار الخطابات من دون أدنى متابعة فعلية. وحدة، تظهر في نهاية المطاف وخاصة بعد التدخل الأميركي في العراق، أنها وهم>>.
فأمام عالم عربي موحد، لا تستطيع الصهيونية أن تنال من حقوق العرب. وأمام عالم عربي مخترق صعب عليها ابتلاعه، فكيف الأمر أمام عالم عربي موحد. وهنا الأهم، تحت أي إطار كان للعلاقات العربية الصهيونية، يثبت هذا الكلام، لرجل سلام، يدعي العفة والطهارة، مثل بيريز، يثبت ويؤكد نية الصهيونية تجاه العرب كيفما كانت الظروف وتثبت مقولة مدى لعب دور اسرائيل منذ تأسيسها عام 1948 وحتى ما قبل، بتمزيق العالم العربي، <<ليسهل عليها ابتلاعه>>.
الإرهاب
يتناول بيريز قضية <<الإرهاب>> من بعدين. فمن ناحية، أنهكت العمليات الاستشهادية اسرائيل، وألقت الرعب بين أبنائها، وشككت بمقدرتهم على الاستمرار، وطرحت ألف علامة استفهام على المستقبل خاصة بين جيل الشباب الصهيوني، وخاصة أن العمليات الاستشهادية كما تسميها جريدة <<الجيروزاليم بوست>>، هي صواريخ على قدمين لم تجد لها اسرائيل الدواء الناجع، فلا الشباب الصهيوني مستعد لأن يبادل العمليات الاستشهادية بالمثل، والنانوتكنولوجيا والتقنيات الحديثة والنووية تقف عاجزة لا بل مشلولة أمام عزم وإرادة شبان وشابات في مقتبل العمر، قرروا كتابة تاريخهم بدمائهم.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى وأمام عجز اسرائيل أمام <<الإرهاب>> المقاومة الداخلية، يحاول الاستعانة بالعالم عليه، بدمج هذا <<الإرهاب>> والحاقه <<بالإرهاب>> العالمي.
فبيريز في الصفحة 22، يشير إلى <<كابوس الإرهاب>>. ثم يعود ويشير في الصفحة 37، الى <<أن ظاهرة الإرهاب، أوقفت بروز <<عالم كنت أتمناه>>، حيث الاقتصاد يحل تدريجياً محل الأسئلة الاستراتيجية>>. ويعود ويؤكد في الصفحة 138، العجز عن ضرب المقاومة، فيقول: <<إن الحجة التي تقوم في أول الأمر، على فرض وقف لاطلاق النار قبل التفاوض على السلام، تقود إلى حلقة مفرغة يجب تحطيمها. كيف بالفعل نؤسس لوقف إطلاق نار، وطد على القوة فقط؟ صحيح أن هناك إرهابيين يقتلون في فترات ما يمكن أن اسميه <<وقفا لاطلاق النار بالنار>>، لكن هذه التدابير التي تهدف إلى وقف <<الإرهاب>>، ليس لديها أي فعل إلا تأجيج <<الإرهاب>>>>.
وهو يعارض بشكل واضح شارون الذي يطرح وقف العمليات الإرهابية، كشرط لبدء المفاوضات.
ثم يطرح قضية الحائط أحد الحلول الأخيرة التي ابتدعها شارون، للحؤول دون العمليات الإرهابية الذي يفصل بين أراضي الضفة وغزة وإسرائيل 48، ويبلغ عرضه بين ثلاثين ومئة متر حسب الأماكن، وكلفته تتراوح بين مليون ومليوني يورو للكيلومتر الواحد.
فيشكك بيريز بالنسبة للحماية التي يمكن أن يؤمنها الحائط للصهاينة. ثم يعود ليتابع <<أنه ليس أكيدا أن هذا الحائط سيكون فعالا. ففي هذه الأوقات العصيبة، حيث ظاهرة الكاميكاز، المستعدون للموت، تنتشر أكثر فاكثر، وحيث هؤلاء <<الإرهابيون>> قادرون على الوصول إلى غاياتهم، أن يتنكروا في زي رجال دين يهود، أو جنود في الجيش الإسرائيلي أو نساء، فالحائط يظهر كسخرية. ثانياً الكل يعرف والتجربة برهنت، أنه في كل مرة تتخذ تدابير جديدة ضد <<الأشرار>>، لا يتأخر هؤلاء في اختراع إجراءات مضادة>> (ص 141).
وهنا بعد أن يقتنع بعجز اسرائيل عن ردع المقاومة، يحاول دمج المقاومة الفلسطينية بالإرهاب العالمي، علّ العالم يأخذ على عاتقه ضرب المقاومة في فلسطين (ص 107، 106)، مؤكدا أن اسرائيل لا تستطيع أن تقف وحدها ضد الإرهاب العالمي.
وبعد أن يؤكد أن الحائط غير قادر على إنقاذ اسرائيل، يعود ويؤكد في الصفحتين 118 و119، أن لا بديل عن الانسحاب.
إسرائيل والإسلام
وهو بعد أن يتهجم على الأصولية الإسلامية في كتابه <<لتشرق الشمس>> (ص 65)، يؤكد في نظريته الأخيرة، بعد شعوره بمأزق اسرائيل: <<بعكس اعتقاد مسلّم به من قبل كثيرين، فإن الانتصار على الإرهاب لا يعادل انكسار العالم العربي أو الإسلامي. الانتصار على الإرهاب سيؤدي فقط إلى اختفاء تطرف ديني أعمى بالكامل>> (ص 22 ).
ثم يعود في الصفحة 187، ليؤكد <<يجب القول وإعادة القول: نحن الإسرائيليين، لسنا أعداء الإسلام>>. ويؤكد أن <<الإسلام ديانة كبيرة لأكثر من مليار شخص. وهي وجدت لتدوم، وهي لن تتوارى. لكن الذي يبدو لي أن الإسلام سيتغير>>.
ويصل (ص 189) إلى درجة مغازلة الدين الإسلامي بقوله: <<إنني اعتقد أن الاتحاد الأوروبي سيزداد غنى باحتوائه دولة إسلامية>> يقصد هنا تركيا .
وكما ورد في المقدمة، يتخوف بيريز على مستقبل اسرائيل. وفي الصفحة 216 يتابع ليقول إن <<المجتمع لا يستطيع أن يعيش، ضمن تهديد مستمر من الإرهاب>>. وفي الصفحة 218، يتابع أن <<إسرائيل تعاني من مشكلتين أساسيتين: الأولى الصراع مع الفلسطينيين والثانية الهجمة العالمية على إسرائيل>>. وبالفعل نرى إحصاءات في أوروبا والولايات المتحدة ترى في إسرائيل دولة إرهابية من الطراز الأول (أحد الدلائل على ذلك). وهو يفرد صفحات بكاملها عن العلاقات بين اسرائيل والقارة الأفريقية، حيث يشير إلى تدهور العلاقة بين الاثنتين، والتي كان ابرز مؤشراتها في مؤتمر دربان في جنوبي أفريقيا، حيث أدت المظاهرات المعادية للكيان الصهيوني إلى رحيل عدة وفود (ص 183). وفي الصفحة 17، يؤكد أنّ مئات الآلاف من الإسرائيليين هم عاطلون عن العمل. عدد كبير منهم يعيش تحت خط الفقر، وكي يتغذوا فهم يستنجدون <<بالطعام الشعبي>>. وهو يدعو إلى انسحاب فعلي ضمن خارطة وأوقات محدودة ودقيقة (ص 18).
وهكذا، بعد أن شعر أحد كبار <<شيوخ>> اسرائيل، بدنو اجل هذا الكيان، وبمأزقه، وبعدم حماسة المواطنين الصهاينة للدفاع عن المشروع الصهيوني وعدم اقتناعهم به، يحاول بشكل ميؤوس، ابتكار <<نظرية اللحظة الأخيرة>>، يمني النفس بوعي أو بلا وعي أو بالاثنين معا، بإعادة اعتبار للكيان الصهيوني، حتى يصل إلى تأكده من انتصار ساحق للكيان على <<الإرهاب>> في <<المستقبل>>. - السفير -