لم يكن التكريم الذي ناله الرئيس الراحل ياسر عرفات إبان مرضه, (الذي لم يمهله طويلاً كما يقال) وعقب رحيـله, من دون سبب او بغير دلالة. فلم يقترن اسم وصورة الراحـل فقـط بكفـاحه الثابت والموصول في سبيل حرية شعبه ووطنه, بل كذلك بما تمتع به من رؤية سلمية تقوم على مبدأ المصالحة التاريخية, ونال بذلك تأييد شعبه وبعد عقود من ثقافة وطنية قامت على تحرير فلسطين فحسب, الامر الذي نالت معه منظمة التحرير بقيادته اعتراف العالم, واحترام غالبية التيارات السياسية والفكرية, ما خلا هيئات متطرفة يمينية ويسارية.

وقد حقق خلال ذلك انسحاباً متدرجاً, من الاشتباك بالأوضاع الداخلية العربية, واذ لم يقبض لهذا الانسحاب ان يتم خلال وقت قصير, وبغير خسائر او اضرار, فقد بدا مرد ذلك, ليس فقط الى اخطاء ذاتية وقعت بها المنظمة كحركة تحرر, بل كذلك لما بدا من تشابك وأحياناً اختلاط "المهمات الوطنية والقومية", لدى قوى وأحزاب عربية عريضة, كانت تنكر نازع "الانكفاء والقطرية", حتى ان مبدأ استقلالية القرار الذي تمسك به عرفات, والذي كان يقر باستقلالية الانظمة وقواها السيـاسيـة والاجتماعيـة, قد جوبه بمعارضة وتشهيـر من عديد اطراف انكرت مثل هذا الفصل, واعتـبـرت ان فـتح الحدود في المواجهة مع اسرائيل هو امر واجب لا يستحق الخلاف حوله.

بمثل ذلك كانت تذهب افكار ومعتقدات قوى وتيارات نشطة ذات نفوذ على الرأي العام, مما جعل حضور الحركة الوطنية الفلسطينية خارج التراب الوطني المحتل, امراً مفهوماً حينذاك, ان لم يكن امراً مرغوباً, على ان تشكل الاحزاب والمنظمات والهيئات هنا وهناك ظهيراً للمقاومة, وهو ما اخذت به حتى بلدان ومجتمعات بعيدة حتى عن خطوط المواجهة, ورأت في تشكيل ظهير للمقاومة الفلسطينية السياسية والمسلحة, مهمة وطنية داخلية.

وفي غمرة تمجيد الكفاح المسلح كسبيل وحيد للجهد الوطني والقومي, رفع ياسر عرفات غصن الزيتون في الأمم المتحدة, في اول حضور لأصحاب القضية, وهو ما شكل الانعطافة الاولى في الرؤية الفلسطينية نحو السلام. وقد تبعت وواكبت ذلك خطوات مبرمجة, من قبيل اطلاق شعار اقامة سلطة وطنية على كل شبر مستعاد من الاراضي المحتلة, او ما عرف ببرنامج النقاط العشر ثم جاء الاعتراف بالقرار الرقم 242 الذي رأت فيه حركات وأنظمة قومية, بأنه (القرار) يمثل ذروة التبخيس بـ"حقوق الأمة", وتبع ذلك الشروع في اجراء اول حوار اميركي - فلسطيني في تونس, الذي شكل محطة فارقة في شبكة العلاقات الدولية, وبما اخرج القضية الفلسطينية من استقطابات الحرب الباردة, وهدد باضعاف دعم اليسار الدولي لهذه القضية, ثم ما تلا ذلك من اعلان الدولة الفلسطينية في الجزائر, وهو الاعلان الذي لقي اعترافاً دولياً واسعاً, تحولت فيه ممثليات منظمة التحرير الى سفارات, حتى جاء الاداء الرفيع لدى التحضير لعقد مؤتمر مدريد, بالتنسيق المثمر مع الجانب الاردني الذي ادى خدمة جُلى وتاريخية بقبوله تشكيل وفد مشترك اردني - فلسطيني, ثم باصرار الاردن على فك الارتباط داخل الوفد الذي بات وفدين, وبما واكب فك الارتباط الاداري والقانوني مع الضفة الغربية.

هذه السياسات والتدابير المتشابكة, وما يتصل بها من حركة ديبلوماسية نشطة, ومن استثمار العلاقات الدولية, خصوصاً في اجواء الانفـراج الذي شهده المسرح الدولي, بعد انقضاء مفاعيل الحرب الباردة, ادت الى تحـول الكيـان الفلسطيني المعنوي الى كيان سيـاسـي قانوني يتجه للتمركز على ارضه الوطنية, وهو ما تحقق عبـر اتفاق اعلان المبادئ (اتفاق اوسلو) الذي تم التحضير له بالتوازي مع مفاوضات واشنطن متعددة الاطراف والمسارات, وبالالتزام بأجندة هذه المفاوضات, القاضية بالعمل للتوصل الى اتفاق مرحلي, يليه اتفاق حول الوضع الدائم بعد مضي خمس سنوات. هذه الرؤية السياسية الجريئة والخلاقة والمثمرة, هي بعض من صنيع القائد التاريخي للحركة الوطنية الفلسطينية, الذي آمن على الدوام بوجوب تثمير كفاح شعبه ومعاناته ودعم اشقائه وأصدقائه. حيث تمتع خلال مسيرته بذكاء سياسي شبه فطري احياناً, وباستخلاص دقيق للتجارب احياناً اخرى, وبادراك ثاقب لضرورة رفع عبء القضية الفلسطينية عن المحيط القومي, خصوصاً ما كان يمسى بدول الطوق, وهو ما ادى في النتيجة الى بلورة كيانية وطنية جغرافية سياسية للمرة الأولى في تاريخ الصراع, وهو ما شهد له بذلك الابعدون قبل الاقربون, بما في ذلك قوى سلام اسرائيلية آمنت بضرورة تجشم عناء مغامرة سلمية كبرى.

لم يوهم عرفات احداً بحل "الاشكال" الفلسطيني, ولكنه نجح في رفع الوعي بأهمية معالجة هذه القضية الى مستوى الضرورة, وقد اثار خلال ذلك حفيظة قوى اليمين الاسرائيلي الاشد تطرفاً, التي تجندت لمواجهة شرسة وبربرية, ابتدأت باغتيال رابين, وانتهت بإغراق الاراضي الفلسطينية المقدسة بالدم, وكان لارهاب شارون باقتحام باحة المسجد الاقصى, وايقاع اعداد من القتلى والجرحى في صفوف المحتجين من المصلين, "الفضل" في عسكرة الانتفاضة الثانية, وفي الدفع نحو خيار العمليات الانتحارية والاستشهادية, التي حمل منفذوها من الشبان اليافعين, رسالة تخاطب الاسرائيليين مفادها: "إما ان نعيش معاً او نموت معاً". ومع ذلك فقد نأى عرفات بنفسه بعد ان انتخبه شعبه بـاشـراف دولي عـن هـذه العمليـات ولم يتردد حتى في ادانتها, فيما ظل شارون يواصل بلا هوادة حملة التطهير العرقي, وأدت التوأمة بين شارون وبوش (وفق تعبير الكاتبة راغدة درغام) الى فرض حصار شامل وجائر على الاراضي الفلسطينية وأبنائها, بما في ذلك الرئيس المنتخب.

وخلال ذلك أدركت قوى دولية واسعة, في اوروبا الغربية خصوصاً, ان المشروع السلمي الذي اطلقه عرفات ورابين, بات يتعرض للطعن والغدر, من طرف اولئك الذين يزعمون مكافحة الارهاب, فيما هم يكافحون حق شعب اعزل (بغير قوات مسلحة) في الحياة والحرية, فجاء المرض الغامض والرحيل المفاجئ للرئيس عرفات, ليوقظ مجدداً المشاعر المكتومة, وأحياناً الضمير النائم حيال الصمت الذي أبكم قوى وأطراف دولية, ومنعها من الجهر بما تحمله الحملة على الارهاب من مغالطة وتدليس, حين توكل مهام انقاذية الى من هو في حكم عميد الارهاب في المنطقة السيد شارون, فقد كان الانصاف يقتضي بالوقوف مع كل من يتمسك بخيار المصالحة والسلم "من اجل اطفالنا وأطفالهم", مثل عرفات الذي تم حجب صورته ودوره لمصلحة رجل كامل الاوصاف مثل السيد شارون ومعه بقية افراد عصابته.

وحين يجري الحديث هذه الايام عن رفع الذرائع بغياب عرفات, فذلك يدلل على ان استعصاء الحلول يعزى الى قائد محاصر انما هو محض ذريعة ثقيلة, وهو ما يفـسر تخبـط السيد شارون الذي فقد عدوه الحميم, وخسر فرصة تحميـله وزر الشرور التي تفـيـض بها نفس هذا الشخص المحروم من العقاب.

وإذ يجرى التحضير للانتخابات هذه الايام, فما يقتضي التنويه ان تحضيراً مماثلاً بدأ الاعداد له منذ اربع سنوات, لكن ممانعة الليكود الاسرائيلي والاميركي, أدت الى حرمان المجتمع الفلسطيني من وعود الدمقرطة التي بشرت بها الولايـة الاولى للرئيـس بـوش, وها هو العالم يبدي حماسة منقطعة النظيـر لتفعيل الاستحقـاق الانتخابي في 9 كانون الثاني (يناير) المقبل, مع الاقرار بالصلة الوثـيقـة التي تربط هذا الاستحقاق بالرؤية السياسية السلمية, التي اسهم عرفات بالقسـط الوافر في اطلاعها وبلورتها, ونذر سواد حياته من اجـلها, واستقـطب تأييد نصف الاسرائيليين على الاقل, وهو ما يجعل الاشعاع السياسي والرؤيوي لهذا الراحل مستمراً بغيابه, وهو ما يوغر صدور غلاة اليمين وزعيمهم بلا منـازع شـارون, الذي لم يتـورع عن تهديد عرفات بعد غيابه بالسعي الحثيث والمسعور من جانبه الى تسويد صفحته وسمعته.

غير ان الراحل, والذي ثقلت مسيرته بالعثرات وبنزعة تجريبية كما بحسن التدبير وفضائل التراجع عن الاخطاء, يظل في مرآة تحولات عصرنا, فاعلاً مفعماً بحيوية استثنائية, ورائداً في شق الطريق الى الحرية, ومنارة امل وسلام يخفق ضوؤها, في سرائر ملايين البشر ممن ينشدون العدل والمصالحة للشعوب المعذبة. - الحياة اللندنية -