قد يكون من باب التسرع هذا التفاؤل بشارون ما بعد رحيل عرفات، وهذا بغض النظر عما اذا كانت صفقة عزام عزام جزءاً منه ام لا. وقد يكون هناك ضغط اميركي على الأنظمة العربية كي تحسم بضعة مواقف في سياساتها الإقليمية كما في سياساتها الداخلية. وربما احتلّ الميل الى حل نهائي للوضع الإيراني (والسوري؟) موقعاً أشدّ تصدّراً في عهد الإدارة البوشية الثانية.

مع هذا كله يبقى ان رائحة عفن تسري في المنطقة، وتبعاً لها تتشكّل سياسات واتجاهات ومواقف لا تقلّ دفعاً عن العناصر المذكورة اعلاه. فعلى ايقاع الوضعين العراقي والفلسطيني، وفي موازاة التصدّع في نسيج الروابط الوطنية، من العراق الى مصر مروراً بلبنان، يرتفع صوت مؤداه الخروج من المناخ العنفي الراهن بأي ثمن كان. ذاك انه في حضن هذا المناخ، وظاهره الصراع مع الولايات المتحدة، تتراكم اسباب التوتر الأهلي والمخاوف التجمّعية. وبالمعنى هذا، حذّر الملك الأردني، على نحو أعوزه التوفيق، من نفوذ ايران في العراق ومن إقامة «هلال شيعي» يمتد الى لبنان عبر سورية.

يندرج في النطاق هذا عدد من التطورات الكبرى، في طليعتها الاتجاه المصري الجديد الى إحراق المراحل في وجهة غير معهودة. فحين تقول القاهرة، مثلاً، ان «الحرس الثوري» الإيراني رعى التجنيد والتدريب في معسكرات لـ«حزب الله» في لبنان، تكون تذهب ابعد من الرد على نفي طهران لاتهامها في قضية التجسس والاغتيالات.

وحين يحذّر الرئيس العراقي غازي عجيل الياور ايران وسورية، لا يفوت المراقبَ ان الأمر جزء من تيار أعرض، حيث قال سكوت ماكليلان، الناطق بلسان البيت الأبيض، الشيء نفسه. وهو، الى حد بعيد، «جوّ» اميركي يتعدى النطاق الرسمي الى الإعلام (وقد اتهمت «واشنطن بوست» انصار صدام حسين بتوجيه العمليات من سورية).

وتبقى في الخلفية إشارات وإيحاءات، بينها احتمال قيام وزير الخارجية الإسرائيلي سليفان شالوم بزيارة مسقط رأسه في تونس، بعدما قام النائب الإسرائيلي موشي كحلون بزيارة بلده الأصلي ليبيا.

والراهن ان هذا العد العكسي ابتعاداً عن النوازع الراديكالية يبقى جيداً ومفيداً في الأحوال كافة. إلا انه، ولكي يؤتي اكله ولا يتسبب بارتداد عليه مضاد، ينبغي ان يترافق مع وجهتين اخريين. فأولاً، لا يمكن «حلّ» القضية الفلسطينية، بما في ذلك دعم محمود عباس، من دون حلها. ذاك ان الرغبة المفهومة في التخلص من احد مصادر الراديكالية والعنف لن تصير رغبة فعلية من دون تقديم حل معقول للقضية الفلسطينية. وبالمعنى هذا لا تزال الإشارات متضاربة فيجوز، وحتى إشعار آخر، التحذير من نزعتين، إحداهما تبالغ في التعويل على رحيل عرفات وعلى «رغبة» الإدارة الأميركية القديمة - الجديدة في الحل، كما على تحركات البريطانيين والأوروبيين «بالتنسيق مع» الولايات المتحدة. وهو تعويل لا يستوقفه الانتباه الى تركيبة الإدارة الحالية. والثانية تبالغ في البناء على طبيعة الإدارة هذه وعلى سلوكها في السنوات الأربع الماضية، غير عابئة بحقيقة ان السياسة الخارجية ليست مرآة دقيقة لـ«طبيعة» الإدارة، ولا عابئة بالاحتمالات التي قد يخلقها رحيل عرفات.

وثانياً، سيكون من المقلق جداً الانتقال من جو عام تطغى عليه الراديكالية السياسية، ولو في الظاهر فقط، الى جو آخر تسوده الراديكالية الطائفية المرفقة بسباق لكسب ود الولايات المتحدة. فهنا، وعلى خلفية الكلام الذي صدر عن الملك الأردني، ينتهي بنا المطاف الى استبدال تمزيق بتمزيق وتآكل بتآكل. وكم يبدو كريهاً ذاك التلازم الرهيب بين طلب الإصلاح، وأحد اغراضه المفترضة تذليل التوتر الطائفي، وبين طلب الطائفية! - الحياة اللندنية -