هل من باب الصدف ان التوقيع على اتفاقين تجاريين منفصلين بين اسرائيل وكل من مصر والأردن تزامن مع عودة شمعون بيريز الى واجهة المسرح السياسي الاسرائيلي في منصب نائب رئيس الوزراء؟ وهل من الصدف أيضاً انه عاد الى سدة الحكم في ذكرى مرور عشر سنوات على صدور كتابه «الشرق الأوسط الجديد» الذي تنبأ فيه بإدماج اسرائيل في المنطقة سلماً؟

لو كان كل ذلك محض صدفة فليس صدفة قطعاً ان بيريز كلف ملف الحوار مع الفلسطينيين واستطراداً مع العرب لخبرته الطويلة في شؤون التطبيع بالقنوات السرية والعلنية. وربما كان الاتفاقان أفضل هدية لبيريز صاحب نظرية الانطلاق من التطبيع الاقتصادي لإقامة شرق أوسط جديد، فالاتفاق الأول يتيح للمصانع الاسرائيلية تصدير منتجاتها للولايات المتحدة بعد المرور عبر المناطق الصناعية المصرية، والثاني يرمي الى تعزيز فرص وصول الصادرات الاسرائيلية الى الأسواق الأوروبية بحجم اكبر عبر المناطق الصناعية المؤهلة في الأردن من دون دفع ضرائب. ومن المفارقات انه في الوقت الذي تواجه اسرائيل عزلة دولية شبهها المندوب البرىطاني السابق لدى الأمم المتحدة السير جيريمي غرينستوك بعزلة كوريا الشمالية، يتطوع العرب لفك تلك العزلة ومدّ جسور جديدة بين الدولة العبرية والسوقين الأميركية والأوروبية. ومن الثابت ان عدد أصدقاء اسرائيل في العالم تراجع بشكل لافت نتيجة اشمئزاز الرأي العام الدولي من جرائمها وحرج الدول الغربية من الظهور بمظهر المساند لحكومة لا تخاطب سكان المناطق التي تحتلها إلا بلغة الصواريخ والدبابات والمدافع.

ومن المفارقات ايضاً ان نائب رئيس الوزراء الاسرائيلي وزير التجارة والصناعة ايهود اولمرت الذي وقع على الاتفاق التجاري مع الأردن، هو نفسه الذي حمل في جلسات الحوار الأوروبي - الاسرائيلي السادس الذي عقد اخيراً في برلين، على أوروبا كونها «تركت اسرائيل وحيدة»، واتهم الاتحاد الأوروبي بأنه «وقف في معظم الأوقات في موقف مناهض لاسرائيل لدى بحث نزاع الشرق الأوسط». فلماذا توقيع الاتفاق التجاري مع الأردن في هذا الوقت اذاً؟ لا يخفي الاسرائيليون أنهم يريدون من أوروبا ألا تكون مجرد سوق لترويج ورودهم ومنتجاتهم الصناعية، وانما يطلبون منها العمل (مع اميركا) لإقامة خطة مارشال لمنطقة الشرق الأوسط، أي لضخ مزيد من الاستثمارات في اقتصادهم وتعميق تفوقهم على بلدان المنطقة.

بهذا المعنى، تندرج العلاقات التي نسجها العرب مع الدولة العبرية في اطار الرؤية الاسرائيلية الرامية للدفع بالمسار الاقليمي في اتجاه جعلها قطب الرحى في العملية الاقتصادية والسياسية مستقبلاً. وهذا يفترض، طبقاً لما رسمه بيريز، قيام معادلة جديدة ترتكز الى مثلث التكنولوجيا الاسرائيلية والعمالة العربية والمال الخليجي.

في مقابل الاتفاقين التجاريين المصري والأردني مع اسرائيل يتبدى على الطرف الآخر من اللوحة مشهد رئيس الوزراء التركي أردوغان في دمشق موقعاً مع نظيره السوري على اتفاق لإقامة منطقة للتجارة الحرة، وهو بدا كما لو أنه حريص قبل نهاية السنة على رد زيارة الرئيس السوري بشار الأسد «التاريخية» لأنقرة مطلع العام. إلا ان أردوغان الذي زار سورية الأربعاء والخميس كان مختلفاً عن اردوغان السابق، فقرار الاتحاد الأوروبي بضبط ميقات لمباشرة المفاوضات مع تركيا لضمها اليه غيّر كل المعطيات في الوضع التركي. لم يعد أي شيء مثلما كان في الماضي. كما ان تركيا التي كان سياسيوها لا يتركون اسبوعاً يمضي من دون تبادل زيارات ودية وكلمات ناعمة مع المسؤولين الاسرائيليين صاروا اكثر تردداً على العواصم العربية وتخلوا عملياً عن محور انقرة - تل ابيب، خصوصاً منذ تصريحات اردوغان الشهيرة عن قمع الفلسطينيين التي أزعجت قيادات الدولة العبرية أيما ازعاج. وبات واضحاً ان الحكومة التركية تشعر بأنها في حل من التحالف غير الطبيعي مع اسرائيل الذي فرضته المؤسسة العسكرية، وهي تبدو في ضوء امتناعها عن المشاركة في الحرب على العراق وتقاربها المتسارع مع سورية أميل الى الانسجام مع قوانين الجغرافيا التي تفرض عليها اقامة علاقات صحية مع جيرانها العرب بدل الانفتاح على الدولة العبرية، على رغم ان مسار الاندماج في الاتحاد الأوروبي يحتل صدارة أولوياتها في المرحلة المقبلة ويتقدم على جميع الاعتبارات الاخرى. اما على الطرف الثالث من المشهد فيبدو العرب غير متحمسين لإقامة منطقة التجارة الحرة العربية، فلماذا تعطى الأولوية لتشبيك العلاقات الاقتصادية مع اسرائيل ولا يصرف اي جهد لتحقيق التكامل العربي الذي يشكل أهم ضمانة للأمن الوطني والقومي لكل بلد؟ - الحياة اللندنية -