مجزرة الأمس، في بيت حانون، هي حلقة من سلسلة ممتدة، من الجرائم التي يقف النظام العربي، والعالم، حيالها، ببلاهة، وبعجز دبلوماسي فاضح، يجعل المتشدقين بالكلام عن الإرهاب أمام حقيقة ريائهم، بل إن هذه الجرائم، تعطي التغطية الأكثر من كافية، لقاطعي الرؤوس في العراق، لأن ما يفعله المحتلون في فلسطين، يشوّه كل القيم ويطيح بكل الضوابط. وفي هذا السياق، فإن الجنرالات، والقوي العنصرية الحاكمة، في الدولة العبرية، يمارسون الصراع بمنطق مضاد لقوانين الطبيعة، وبالتالي هم ذاهبون الي هزيمتهم، التي لم تكن ستتأخر، الي هذا الوقت، لولا المساندة الأمريكية، التي تحاول دائماً، تغطية عوراتهم، وتسويق ذرائعهم!

هم لا يرون أن للنار، بالضرورة، أثراً علي الماء، ولا علي الصفيح، ولا يعترفون أن الغليان، يعكس حركته في الإناء، ولا للفعل، أي رد فعل، ولا للجرائم، أية ردود ثأرية، ولا للاحتلال، أية مقاومة! يرون في أنفسهم مخلوقات من نوع خاص. لدمهم، ولأرواحهم، كل الأهمية، والموت، في صفوفهم، فاجع يستحق دموع العالم، ويعطيهم كل الحق في القتل، دونما اكتراث بأرواح الآخرين، أو بوقع الموت علي هؤلاء الآخرين، لأنهم لا يعترفون أصلاً بحق الأغيار في الحزن، وفي التفجع!

كأنهم لا يفعلون شيئاً، عندما يخنقون حياة شعب كامل، وعندما تنشغل غرف عملياتهم العسكرية، بالهجوم علي البلدات والقري والمخيمات، وبقطع الطرق، وبهدم البيوت، وباغتيال الأبرياء. وكأن منع الحق الإنساني للناس، في المرور، وفي السفر، وفي فلاحة الأرض، وفي جمع الثمار، وفي حماية البيوت، لا يمثل شيئاً يستحق أن يقاومه المقاومون!

الاحتلال، في عرفهم، شيء عادي ومفروغ منه، ولا ينبغي أن يستحث أي كفاح. فكيف يكافح الأغيار سليقة الساميين وحركتهم المباركة .. مثلما يتوهمون. أنهم لا يعترفون للشعب الفلسطيني، بالحق في الحرية. أما عندما يسقط لهم بعض الجنود، في موقع احتلالي، يتطفل أصلاً، علي حياة الناس، وعلي طرق مواصلاتهم، فإنهم يتصرفون كما لو أن أطفالاً أبرياء، قد سقطوا ضحايا للقتل المجاني، الذي يمارسه إرهابيون يسفكون دماء العصافير، انسياقاً لنزعات شريرة!

قبل عملية حفر النفق، عند مفرق المستوطنات الغبية، المتطفلة علي الشريط الخلفي لجنوبي قطاع غزة، كانوا يسومون الناس سوء العذاب، ليصبح التحاق العامل بعمله، والطالب بجامعته، والتاجر بمكان رزقه، عذاباً يومياً. لم يكفهم ذلك، فأصدرت غُرف عملياتهم، أمراً بمنع السيارات الخاصة من المرور، ثم شددوا القيود علي سيارات النقل العام، وأصبحوا يتلذذون بالحشود الضخمة، من الناس ـ أطفالاً ونساءً وشباباً وشيوخاً ـ التي تنتظر مجرد العودة الي بيوتها. وعندما وقعت العملية، تصرفوا بالمنطق السافل نفسه: كيف يفكر المقاومون في مهاجمة الموقع الذي يمارس ضدهم كل هذا التعذيب؟!

لعلها المرة الأولي، في تاريخ الصراعات، التي يطمح فيها عدو، الي الإجهاز علي الخصم، وشطب كرامته، كشرط لعملية تسوية. إنهم يجعلون الحرب المديدة، شرطاً للتسوية، التي هي ـ عندهم ـ المعادل الموضوعي لصك الإذعان، ويريدون أن تكون الهزيمة، من نصيب الطرف صاحب الحق في الاستقلال وفي الحرية، ويمارسون العسف، وبعد كل هذا، نري أن هذا الاحتلال، لا يريد للمقاومة أن تكون، لأنه لا يريد الاعتراف، بأن النار ترفع درجة حرارة الماء، عندما يتعلق الأمر بنا. يريد العدو، أن يُكرّس بالقوة، في الوعي الباطني للمجتمع الفلسطيني، أن موتهم هو غير موتنا، وأن لهم ـ وليس لنا ـ الحق في الأمن، بل إن للاحتلال العسكري، بالقوة الغاشمة، الحق في مثل هذا الأمن، الذي ينبغي أن يكون دون طموحاتنا!

فاشيون هم ومخالفون لسنن الحياة، ولقوانين الطبيعة، لذا فإنهم مندحرون حتماً، ولا مستقبل لهم، وستظل ممارساتهم تلاحقهم، سُبة في جبين جموعهم، جيلاً بعد جيل!

لقد أصيب المجتمع الفلسطيني، قبل يومين، بأعمق مشاعر الألم والتفجع، من خلال وصفه لجريمة لا يقترفها إلا جبناء، وهي قتل الأستاذ الجامعي خالد صلاح، وإبنه الفتي الصغير محمد، في مخيم عين الماء وإعدام المقاوم البطل، يامن فرج!

ربما يمر هذا الفعل الإجرامي السافل، لتنشغل وسائل الإعلام بغيره ـ بل بجرائم أفظع منه ـ دون أن يتوقف الضمير الإنساني، أمام مثل هذه المجازر، التي يندي لها جبين البشرية، ويُفترض أنها الحقت العار بالمجرمين، ومن يساندهم، وأحرجت من يستنكر مقاومتهم، بأية وسيلة ممكنة. فالعمل المخزي، الذي اقترفه جنود، ليسوا في مستوي عربنجية فقتلوا أستاذ الهندسة في جامعة النجاح، وإبنه محمد، يستصرخ الضمير العالمي، لكي يضع يده في أيدينا، لدحر هؤلاء التتار الفاشيين، وإلا سيكون الجميع مسؤولين عن كل التداعيات والظواهر الانتقامية، التي لا ضابط لها. فالدم يجر الدم، وعندما يصبح أستاذ جامعي، ونجله الفتي الصغير، هدفاً لآلة عسكرية، تستمد معظم عناصر قوتها ومقدراتها، من الولايات المتحدة الأمريكية، يُصاب أحدنا بعدم الاكتراث، حيال ممارسات فردية لقاطعي الرؤوس بشكل مثير للاشمئزاز. فإن كانت الجيوش التابعة لما يسميه جورج دبليو بوش العالم الحر تهاجم منزلاً، فترشق بالأسلحة أستاذ هندسة، وتتركه مع إبنه، منقوعين في الدم؛ فما الذي في وسعنا أن نقوله، لجماعات صغيرة، مطرودة ومطاردة، من كافة الرسميات العربية، عندما تسجل ردود أفعال ليائسين، من إقامة الحد الأدني من العدالة في فلسطين وغيرها!

فأي حال، سيكون عليه الرأي العام الفلسطيني، عندما ينظر في مسألة التسوية، التي يُراد لها إنهاء الصراع؟! وأي تقييم يمكن أن يكون لدي الرأي العام الفلسطيني، للحكومات العربية، ذات الدبلوماسيات الكسيحة، العاجزة عن فضح الجرائم التي يرتكبها القتلة المحتلون، عندما تتنطح هذه الحكومات لمهة إنجاز التسوية؟! وأية صدقية للإدارة الأمريكية، عندما تتحدث عن حرصها علي أمن الشعب الأمريكي، وهو من أصول عرقية شتي، عندما يقتل حلفاؤها الفاشيون، أستاذا وابنه، يحملان الجنسية الأمريكية؟! إن تعويم الجريمة، والإغراق ـ بالدم ـ لمحاولات العرب التوصل الي مجرد التهدئة، هو المنهج المعتمد، لدي شارون والجنرالات الأغبياء، الذين يحكمون في تل أبيب. فشارون يتعمد تفريغ أي إحساس لدي الحاكمين العرب، بالكرامة، لذا فإن مسلسل الجرائم، يستمر، وبدون رادع! - القدس العربي -