الإنجاز الذي حققه الفلسطينيون بالحصول على قرار محكمة العدل الدولية ممكن يسجل بحق باعتباره نصر تاريخي للقضية الوطنية الفلسطينية منذ أن نشأت بفعل وعد بلفور وما تبعها من تداعيات أدت إلى ضياع الأرض والكيان والهوية السياسية للشعب الفلسطيني والتي استعادها بعد تضحيات ونضالات كبيرة. والقرار الذي يعد مكسبا بحد ذاته لجهة تأكيده أن الأراضي محل النزاع هي أراض محتلة واعتبار الاحتلال مخالفا للقانون الدولي والإنساني ولاتفاقية جنيف الرابعة يعني أول ما يعني أن كل الإجراءات التي تقوم بها سلطات الاحتلال من تغيرات ديمغرافية هي باطلة ومخالفة لليس فقط للاتفاقية المذكورة وإنما للقانون الدولي والإنساني. وإذا ما خاض الفلسطينيون هذه المعركة السياسية والدبلوماسية والقانونية في أروقة الجمعية العامة ومحكمة العدل الدولية في لاهاي،لأنهم لم يكونوا لوحدهم فقد وقف إلى جانبهم كل الدول والشعوب والقوى المحبة للعدل والسلم في العالم ، وبالتالي يصح القول أيضا إن هذا الإنجاز الفلسطيني الهام لنا شركاء به ويسجل لهم ليس دورهم فحسب وإنما أيضا مشاركتنا في تذوق معنى هذا الانتصار القانوني الذي انصف الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة من أعلى هيئة قضائية في العالم . وهو بذلك وان أكد على الحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني والتي كانت قد أقرتها الشرعية الدولية طبقا لقرارات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة ذات الصلة بالقضية الفلسطينية، فإن هذا القرار يشكل بحد ذاته ردا على كل المحاولات التي كانت تدعي ليس بعدم أحقية المحكمة للنظر في قضية الجدار بل هو إدانة للاحتلال والاستيطان الذي اعتبر الجدار كأحد امتداداته العملية الملموسة .

لقد كان منطوق القرار من الناحية القانونية ذا أبعاد أوسع من البعد السياسي لأي قرار من قارات الأمم المتحدة لكونه مستمد من الشرعية الدولية ومبني على قواعد القانون الدولي، ومن هنا فإن القضية الوطنية الفلسطينية يمكن القول انه بعد هذا القار انتقلت إلى مستوى جديد من الصراع، يضع إسرائيل والولايات المتحدة في حال الاستمرار في رفضهم للقرار وعدم الانصياع لتطبيقه كدول مارقة وخارجه عن القانون الدولي والإنساني وليس كما كانت تجري العادة في إطار مخالفتهم لقرارات الأمم المتحدة.

إن منطوق القرار بتحديده أيضا الالتزامات الواجبة التطبيق من وجهة نظر القانون الدولي على هيئات الأمم المتحدة باعتباره ملزمة به لأنها طلبت الرأي الاستشاري للمحكمة، وكذلك الدول الأعضاء في المنتظم الأممي، والأطراف السامية الموقعة على معاهدة جنيف الرابعة من اجل عدم الاعتراف بقانونية الإجراءات الإسرائيلية ونتائجها من بناء الجدار وكذلك الإلزام بتفكيك ما بني منه ، ودفع التعويضات للفلسطينيين المتضررين من جرائه ، علاوة على تأكيده بعدم شرعية وقانونية الجدار حول القدس ومحيطها ، إن كل هذا المركب القانوني الجديد بإبعاده قد وفر فرصة جيدة وجديدة أمام الفلسطينيين لشن هجوم سياسي ، تستعاد فيه المبادرة السياسية على الصعيد الدولي ، بعد أن نجحت حكومة شارون وبدعم غير محدود من الإدارة الأمريكية إلى وصم نضال شعبنا الفلسطيني بالإرهاب والى فرض أولوية دولية جديدة أمام العالم بتحويل خطة شارون للفصل الأحادي الجانب هي المشروع السياسي الوحيد على الأجندة الدولية والإقليمية بديلا عن خطة خارطة الطريق التي كانت قد تعرضت للإجهاض المبكر بالموافقة عند الأمريكية التطبيق العملي على اعتراضات حكومة شارون الأربعة عشر ، وكانت الضربة القاضية الثانية لخطة خارطة الطريق برسالة الضمانات التي قدمها الرئيس بوش للحكومة الإسرائيلية كثمن لخطة الفصل الأحادي الجانب والتي صادق عليها الكونغرس فيما بعد .

ومن هنا فإن استعادة زمام المبادرة يعني أول ما يعني أن قضية جدار الفصل العنصري التي كانت أساس وجوهر مشروع شارون للفصل الأحادي الجانب قد تعرضت لضربة قاسية، وبالتالي فإن الهجوم السياسي الفلسطيني يجب أن يستهدف وقبل كل شيء تطبيق القرار بكل حيثياته، لأنه إجهاض لمشروع شارون البديل عن صنع السلام العادل والشامل مع الشعب الفلسطيني، وهذا الهجوم السياسي الفلسطيني لا يعني بأي حال من الأحوال انه تخلي عن الالتزام بعملية السلام بقدر ما يعني وقبل كل شيء تصويب لوضع العملية السياسية وتصحيح لمسارها التي أراد شارون وبوش تحويل مسارها باتجاه فرض حل استسلامي على الشعب الفلسطيني .

إن المكاسب القانونية التي خلقها قرار المحكمة ينبغي النظر إليها ليس فقط من منظار المراكمة القانونية وإنما كأداة للتحرك السياسي لضمان تطبيق القانون، ورغم إدراكنا المسبق بالاختلال الواضح في موازيين القوى الراهنة بيننا وبين الطرف المعادي والذي لن يستكين ويسلم بهزيمته في المحكمة ، فإن القرار قد وفر سلاحا قويا بيدنا للمضي بمعركة سياسية طويلة تفضي بالنهاية إلى تطبيق القرار ،وكما جرى في ناميبيا فإن الفرق بين اتخاذ القرار في المحكمة وتطبيقة اخذ أكثر من خمس سنوات وكذلك الأمر في جنوب أفريقيا في مواجهة نظام الابارتهايد المقبور .

ومن هنا فلا يتعين أن تراودنا الأوهام إننا سنحصل على تطبيق القرار بالقريب العاجل بل إننا مقبلون على معركة شاقة وطويلة مع الولايات المتحدة الأمريكية التي أجهضنا بهذا القرار أهم مرتكز استراتيجي لها في المنطقة في إطار تحالفها مع إسرائيل والقائم بعد غزو العراق بفرض الرؤية الأمريكية لتسوية الصراعات في المنطقة وفقا ليس للمنظور الأمريكي فحسب وإنما طبقا لمصالح الشراكة الاستراتيجية مع إسرائيل.

إن الفلسطينيين اليوم مدعوين لان يواصلو المعركة التي بدؤها بنفس الكفاءة والقدرة الدبلوماسية والسياسية وكذلك بنفس الزخم الشعبي الذي كان له حضوره الكبير في المحكمة مع قوى التضامن الدولية وقوى السلام الإسرائيلية. إن إدارة المعركة السياسية بكفاءة ونجاعة وتوفير كافة المستلزمات الضرورية لمواصلتها، يتطلب وقبل كل شيء تحديد وجهتنا وماذا نريد والى أين نريد أن نصل بالقرار باعتبار ذلك أمر في غاية الأهمية ، لأنه في ضوء ذلك تتحدد الاستراتيجيات وخطوات العمل ، وكذلك الوسائل والأدوات التي سنخوض فيها معركتنا ، ولا يجب أن يؤثر في القرار الذي نتخذه نسبة موازيين القوى المختلة لان القرار الذي اتخذ بالمحكمة كنا في ظروف أسوء مما نحن عليه الآن ، ولا أن يؤثر أيضا على قرارنا التلويح الأمريكي باستخدام الفيتو في مجلس الأمن ، لان هذا الأمر ممكن معالجته وبنفس القوة بالعودة للجمعية العامة وبأغلبية الثلثين تحت بند الوحدة من اجل السلام .

إن القراءة الدقيقة والمتمعنة لمصادر القوة والضعف ولنسج التحالفات في ضوء المتغير الذي أحدثه القرار ايجابيا بالموقف الدولي وخاصة دول الاتحاد الأوروبي، مما يدفعنا إلى إجراء حوارات معمقة داخليا ومع حلفائنا الذين خاضوا معنا معركة الحصول على القرار من اجل الوصول إلى أفضل السبل لضمان تطبيقه، فلا التعجل غير المدروس مقبول لأنه يبدد هذا الرصيد الهائل الذي حصلنا عليه بشق الأنفس وبتضحيات كبيرة، ولا التردد والمساومات الصغيرة مفيدة لأنها أيضا بالمقابل ستبدد هذا الرصيد بمقابل بخس لا يستحق حجم التضحيات والجهود التي بذلت.