معركة "الجدار" تستمر، ولكن هذه المرة على خلفية قرار محكمة العدل الدولية، ويمكن لهذه المعركة أن تتوسع أفقياً، بمعنى فتح "معارك" اخرى على المستوى القضائي الدولي، مثل معركة "المستوطنات". هذه المعارك الاخرى، سمح قرار محكمة العدل الدولية بإثارتها، ولو ضمناً وذلك من خلال 56 بنداً كرست في بيان رأي المحكمة لتأكيد صلاحيتها للنظر في مثل هذه القضايا، وذلك من مجموع 261 بنداً تضمنها البيان المشار اليه، ما يفتح الباب واسعاً أمام الجانب الفلسطيني لإدراج مسائل اخرى، في المعركة الشاملة، على خلفية الجدار الحدودي، لكي تشن ايضاً من خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة.
هناك في الجانب الاسرائيلي، من أخذ ينتقد الطريقة التي تعاملت بها اسرائىل مع قرار الجمعية العامة بشأن عرض مسألة الجدار على القضاء الدولي، خاصة في الاطار الذي ادعت فيه اسرائيل عدم صلاحية محكمة العدل الدولية النظر بمسألة الجدار، ما اضطر المحكمة الى عرض وجهة نظرها بتوسع، لأكثر من ثلث بيانها الختامي، للرد على الادعاء الاسرائيلي، هذا الرد، يمكن ان يشكل ضمنياً على الاقل، فرصة لعرض مسائل شائكة اخرى على المحكمة ذاتها، وهذا ما اسميناه بالمعارك الاخرى، حتى لا نقول جانبية، لأنها في نظرنا، لا تقل خطورة عن مسأل الجدار الحدودي، بل جوهر عملية الصراع على المسار الفلسطيني - الاسرائيلي.
معركة الجدار، من الناحية القضائية على المستوى الدولي، بدأتها اسرائيل، اولاً من خلال رفضها المعلن والصريح والمباشر للقرار، وثانياً بالاعلان عن اوامر صريحة ومباشرة من قبل رئيس الحكومة، بالمضي قدماً ببناء الجدار الحدودي، وثالثاً بوضع برنامج محدد للتحرك، تستعد وزارة خارجيتها من خلاله مواجهة تداعيات قرار محكمة العدل الدولية، وبالفعل، تحرك سفراء اسرائيل في معظم الدول، لفحص مواقف الدول الرئيسية تهيئة لجلسة الجمعية العامة للأمم المتحدة قريباً.
اسرائيل، هذه المرة، ستحاول ان تجنب الولايات المتحدة، الحرج، حيث ستعمل الدولة العبرية على اقناع بعض الدول دائمة العضوية في مجلس الامن، وكذلك الاعضاء غير الدائمين باتخاذ موقف، لا يمرر بنجاح المصادقة على قرار محكمة العدل الدولية لكي تتجنب الولايات المتحدة، استخدام حق النقض "الفيتو" من ناحية، وحتى يصبح موقف مجلس الامن اكثر قوة لصالح اسرائيل في حال ان نجحت في توسيع دائرة معارضة القرار على نطاق يتجاوز الولايات المتحدة، ولهذا الامر قيمة معنوية ستسعى اسرائيل لكسبها، مع انها تعلم في نهاية الامر، ان واشنطن لن تبخل، كما فعلت دائما، باستخدام حق النقض، اذا كان الامر يتطلب ذلك.
نشير الى ذلك، لأن معظم التحليلات على المستوى الفلسطيني والعربي، ذهبت الى ان الولايات المتحدة ستستخدم حق النقض في مجلس الامن، وهذا يعني، ان تتركز الجهود السياسية والدبلوماسية الى الولايات المتحدة، بهدف الضغط عليها بعدم استخدام هذا الحق، والاكتفاء بالامتناع عن التصويت، وهذا يعني تجاهل عناصر مؤثرة ومفيدة، تتجاوز الولايات المتحدة الى كافة اعضاء مجلس الامن، دائمة العضوية، والعضوية الدورية المؤقتة على حد سواء، اذ ان كل دولة من هذه الدول الـ 41، لا تقل اهمية، في هذا السياق، عن الولايات المتحدة، حسب خطة التحرك الاسرائيلية.
وباعتقادنا ان بداية التحرك الفلسطيني، لاستثمار قرار محكمة العدل الدولية، تكشف من جديد، مقدار ما يعترينا من تخبط وفوضى، فبعد ساعات من قرار محكمة العدل الدولية، خرج علينا مسؤول كبير، اختفى وراء حقه في التعتيم على هويته، بتصريح اشار فيه الى ان القيادة الفلسطينية قررت تأجيل التوجه الى مجلس الامن الدولي بشأن الجدار، الى ما بعد الانتخابات الاميركية، نفي رئيس الحكومة لمثل هذا التوجه، لا يكفي للاطمئنان على صحة الموقف الفلسطيني بهذا الشأن، خاصة ان تصريح "المصدر المسؤول" جاء اثر الاجتماع الذي عقده الرئيس عرفات بحضور رئيس الحكومة والوزراء، لبحث الخطوات التالية لقرار محاكمة لاهاي.
أمين عام مجلس الوزراء د. حسن ابو لبدة اشار الى انه "لا يوجد قرار رسمي بالتوجه او عدم التوجه الى مجلس الامن الدولي"، واضاف "مجلس الامن الدولي هو احد المنابر المنوي اللجوء اليها في مسألة الجدار"(!) ("الايام" 21/7/2004) اي ان هناك توجها في مجلس الامن، ولكن من خلال الجمعية العامة - كما شرح رئيس الحكومة - "التي ترسم الخطوات ونحن سنتبعها" وباعتقادنا ان هذه التصريحات اذ تعكس الاهتمام الفلسطيني بهذه المسألة، الا انها تعكس في الوقت ذاته، ضبابية التعامل مع التوجهات ووضع آليات للتحرك السياسي والدبلوماسي، وكل ما نخشاه ان يكون المصدر المسؤول الذي رفض ان يعلن عن اسمه، اكثر صدقا، واذا كان الامر كذلك، فإن الجانب الفلسطيني يرتكب خطأ اضافياً.
فالجمعية العامة للأمم المتحدة، لم تحرك ساكناً خلال السنوات الثلاث الماضية من بدء بناء الجدار الحدودي، وفشلت في الضغط على مجلس الامن باتخاذ قرار ضده، وجاءت عملية احالة المسألة الى محكمة العدل الدولية، بعد جهد متواصل، فلسطيني وعربي ودولي، شمل كافة المنظمات الدولية والاقليمية والقارية، من دول عدم الانحياز، الى الاتحاد الاوروبي، الى الاتحاد الافريقي، الى منظمة المؤتمر الاسلامي، وغيرها كثير، وهذا يعني ان طبيعة التحرك الفلسطيني المطلوب، يجب ان يأخذ بالاعتبار ضرورة التشاور والتعاون مع كل هذه الاطراف، والتنسيق معها، اذ ان قرار محكمة العدل الدولية، هو انتصار لكل هذه الجهود، وليس للجهد الفلسطيني فقط، وعليه فإن "التسرع" بإصدار اي قرار بالتوجه الى مجلس الامن، من عدمه، قبل التشاور والتنسيق مع هذه الجهات، يعتبر سقطة سياسية، ينم عن تسرع ليس في مكانه والتخلي عن جهود دول وأطراف شاركتنا في صناعة هذا الانتصار، وقد تؤيد مجموع هذه الجهات فكرة تأجيل عرض المسألة على مجلس الامن، وقد يكون هذا الموقف مبنياً على حسابات دقيقة لا بد من اتخاذها بالاعتبار، حينه يجب الانصياع لهذه الرؤية، لكن ما صدر عن المسؤول الفلسطيني يضرب في العمق ألف باء علم السياسة، ويضع من صرح بذلك في قائمة الهواة في العمل السياسي والدبلوماسي، لذا نعتقد انه لا وجود لهذا المسؤول، الذي ربما اخترعه احد هواة الصحافة ليس الا.
وباعتقادنا، ان معركة الجدار المقبلة هي الاصعب، لأن ذلك يتطلب الاستفادة من قرار محكمة العدل الدولية، للتأكيد على جدوى العمل السياسي والدبلوماسي والشعبي، وهذا امر صعب في الظروف الفلسطينية الداخلية الراهنة، لأن نجاح شارون في تحويل كل شيء الى دمار ودم وشهداء، بدد القدرة على النظر الى رؤية تعيد تقييم السنوات الاربع الماضية، ومنع اي عقل مستنير ان يرى بوضوح، وجرأة، ان اساليب المواجهة متعددة، وان المقاومة تتسع لما هو اكثر من صاروخ ولغم، وشاب يسعى للشهادة، هذه باعتقادي هي المعركة الاهم، معركة تفصل بين جدار الموت.. وجدار الحياة!!. - الأيام -