ضمن ما هو متاح من معطيات سياسية يمكن القول ان حكم محكمة لاهاي لن يعود على الفلسطينيين بالكثير، ذلك ان أي مسار سياسي يتوجه نحو مجلس الامن لن يجد فضاء مفتوحاً في ظل انحياز ادارة الرئيس بوش الاعمى للدولة العبرية، وفي ظل التراجع الاوروبي ــ الروسي امام الولايات المتحدة كما تبدى من خلال جملة المواقف التي اتخذتها الرباعية الدولية في الآونة الأخيرة. وبذلك يضاف حكم لاهاي الى قائمة طويلة من الاحكام والقرارات الكثيرة التي يزدحم بها ملف القضية، فيما ستنجح المراهنة الاسرائيلية على شطب تداعياته بمرور الوقت.
لا نتحدث هنا عن الجدار الذي كانت مداولات المحكمة مرتبطة به، لأن عاقلاً في واقع الحال لن يتوقع ان تبادر الحكومة الاسرائيلية الى تنفيذ الحكم بهدمه او بتعويض المتضررين منه، بل ان حكم المحكمة العليا الاسرائيلية في شأن مساره منطقة القدس قد لا ينفذ ايضاً، مع انه في واقع الحال يتحدث عن تعديلات طفيفة لا تغير كثيراً في جوهر الكارثة الانسانية التي يشكلها مساره الاصلي.
ما نتحدث عنه هو ذلك البُعد المتعلق بالجانب الآخر من حكم لاهاي ممثلا في اعادة الاعتبار لما يعرف بقرارات الشرعية الدولية بشأن النزاع العربي ــ الاسرائيلي، والتي تشير الى الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية بوصفها اراضي محتلة وليس متنازعاً عليها كما هو منطق لعبة التسوية منذ مدريد ولغاية الآن.
والحال ان القيادة الفلسطينية ممثلة في منظمة التحرير الفلسطينية وتالياً السلطة الفلسطينية هي التي حولت الاراضي المحتلة العام 67 من اراضٍ محتلة الى اراضٍ متنازع عليها، وذلك بعدما عولت على لعبة تسوية تتعاطى الهواجس الامنية الاسرائيلية، واعتقدت انه ما ان تنزع ذريعة الامن حتى يبادر الاسرائيليون الى اعادة الأراضي المحتلة العام 1967، وهو الامر الذي اكدت مسيرة اوسلو انه محض أوهام، وبخاصة خلال قمة كامب ديفيد، في تموز (يوليو) العام 2000.
لكن ذلك لم يوقف عمليا مسلسل المبادرات والمشاريع الرامية الى اعادة العملية السلمية الى مسارها، سيما بعد ان عاد الفلسطينيون بدورهم الى خيار المقاومة بعد كامب ديفيد ومن خلال انتفاضة الاقصى التي لم تتوقف الى الآن، وإن لم يحدث ذلك على نحو شامل حيث بقيت المقاومة من اختصاص الفصائل، فيما التفاوض من اختصاص السلطة.
الآن يمكن القول ان فرصة تاريخية قد توافرت للسلطة الفلسطينية وللوضع العربي الذي يشكل مرجعاً سياسياً لها، وعلى رأسه مصر، وهي فرصة حقيقية لو توافرت الارادة لاستثمار حكم محكمة لاهاي بعيداً عن اوهام الكرم الاميركي او التفهم الاوروبي.
والحال ان المأزق الاميركي في العراق يجعل من امكان الاستثمار اكبر بكثير، خلافاً لما يمكن ان تقوله القراءة العاجزة لما يجري على الارض. وهنا لا بد من تأكيد ضرورة ان يتذكر العرب والفلسطينيون ان ما يجري هناك من ملامح هزيمة اميركية انما يصب في مصلحة استثمار حقيقي لحكم لاهاي وليس استثماراً من ذلك النوع العاجز المتوقع، والذي يتلخص في مواصلة اللعبة الديبلوماسية التي لن تنتهي الا بوضع القرار على الرف، وفي احسن الاحوال العودة الى خريطة الطريق التي قبلت «الشقيقة الكبرى» بمنطق التعامل معها من خلال التدخل لمصلحة الانسحاب الاسرائيلي من قطاع غزة.
ان العقل والمنطق السياسي الواقعي لا يمكن ان يسبح في فضاء الامنيات، في الوقت ذاته لا يمكن ان يظل اسير العجز عندما ينفتح الافق على فرص كبيرة كتلك التي وفرها حكم لاهاي، ذلك ان «وعد بوش» الشهير الذي حصل أخيراً على مصادقة الكونغرس بأغلبية ساحقة، ومن ورائه «ورقة الموقف» لجون كيري الذي يزايد على غريمه في الغزل مع الاسرائيليين، ومعهما المواقف المعروفة لشارون في ظل هيمنة اليمين على العقل الصهيوني، كل ذلك لا يمكن ان يمنح أحداً فرصة التعويل على مسار خريطة الطريق او أي مسار تفاوضي آخر، ولا حاجة للتذكير هنا بأن الثنائي كلينتون ــ باراك لم يمنح الفلسطينيين عرضاً مقبولاً، فضلاً عن ان يحصل ذلك في ظل الثنائي بوش ــ شارون او كيري ــ شارون، او أي من الاميركيين مع نتانياهو!!
جاء حكم لاهاي ليمنح الفلسطينيين فرصة تاريخية، لكن الفرصة لن تكون مثمرة اذا لم يدر الصراع بطريقة تختلف عن لعبة المبادرات والتسويات والغزليات الجانبية، كما هي الحال بالنسبة لوثيقة جنيف او احاديث الرئيس الفلسطيني حول تنازلات معينة بشأن اللاجئين وتبادل الاراضي وبشأن الاقصى والقدس الشرقية، الى غير ذلك من مماحكات لا تضع الفلسطينيين الا في صورة الجاهزية الدائمة لتقديم التنازلات، لكأن الأراضي المحتلة العام 67 تشكل 78 في المئة من فلسطين وليس 22 في المئة فقط!! ما هو المسار الذي يمكن ان يحول حكم لاهاي الى محطة تاريخية؟ إنه مسار المقاومة، ذلك الذي يتعامل مع القرار بوصفه عودة الى الشرعية الدولية في ما يتعلق بالانسحاب من الأراضي المحتلة العام 67، وذلك بعد ان جرب الفلسطينيون لأكثر من عشر سنوات منطق الركض خلف لعبة التفاوض ودفعوا من اجلها كل ما يمكن ان يدفع أمنياً وسياسياً.
من الضروري ان تعلن السلطة مطلباً واضحاً لا لبس فيه، هو ضرورة انسحاب القوات الاسرائيلية من الاراضي المحتلة العام 1967 من دون قيد او شرط، وحتى يتم ذلك تكون المقاومة هي المسار الوحيد المعتمد، حتى لو انتهت السلطة وعاد الاحتلال الكامل الى الضفة الغربية وقطاع غزة.
ليس بالضرورة ان تعلن نهاية السلطة رسمياً ما دام ذلك مطلباً عزيزاً بالنسبة إلى البعض، مع ان ذلك هو الافضل، سياسياً بإعادة الاحتلال الى وجهه القذر، وامنياً بتحسين شروط المواجهة العسكرية، لكن اعلان المقاومة الشاملة ومواجهة الاجتياحات الاسرائيلية وحظر التجول على طريقة مخيم جنين بمشاركة كل كادر السلطة الامني وعناصر قوى المقاومة، هذا المسار سيكون قادراً اذا لم يقتله التردد على فرض الانسحاب على الاسرائيليين حتى لو كلف ذلك الكثير من التضحيات.
انه التطبيق العملي والواقعي لقرارات الشرعية الدولية، فالضفة الغربية وقطاع غزة اراضٍ محتلة، وليس من المنطق ان يطالب الفلسطينيون بدخول مسيرة تيه جديدة مع الاحتلال بعدما جربوه خلال مسيرة مفاوضات امتدت سبع سنوات عجاف قبل ان يتبين ان المحتلين لا ينوون بالفعل تطبيق القرارات الدولية. قد يتحدث البعض هنا عن قوى المقاومة القائلة بالتحرير من البحر الى النهر، وهنا يمكن القول ان تلك القوى وعلى رأسها «حماس» و«الجهاد» لن تجد حرجاً في القبول بمسار كهذا من دون ان تتخلى عن رؤاها الاستراتيجية، وهو امر يعرفه كل المتابعين لمواقفهما خلال السنوات الماضية.
هذا هو المسار النضالي القادر على تحقيق المطلوب، اما استمرار سياسة الاستجداء فلن تمنح الفلسطينيين غير مزيد من سنوات الضياع والمعاناة، فالمقاومة وحدها هي القادرة على تحقيق الانجاز وليس استمرار الركض خلف الولايات المتحدة التي ثبت عملياً انها تزداد صهينة في مواقفها عاماً إثر آخر. - الحياة اللندنية -