أقرت الحكومة الإسرائيلية مساء (الأحد) بعد عملية تجاذب بين أطراف الائتلاف الحكومي وتحديدا مع حزب الاتحاد الوطني، وبعض المعارضين من وزراء الليكود، حيث غطى على هذا المشهد الطابع التمثيلي لصراع حول خطة شارون المعدلة لإعادة انتشار جيش الاحتلال في غزة، المسماة "خطة فك الارتباط"، او الانفصال أحادي الجانب، وذلك بعد وقف عملية التصويت بأعقاب خلاف نشب لحظات قليلة قبل عملية التصويت وقد صوت 14 وزيرا الى جانب الخطة المعدلة بينما عارضها 7 وزراء.
ويشار أن الخلاف الذي تفجر باللحظات الأخيرة الخلاف مع وزراء الليكود حول الرسائل المتبادلة بين بوش وشارون تم التوصل الى حل لهذا الخلاف يقول انه يتم "عرض الرسائل" لكنها لا تشكل ملحق لقرار الحكومة.
وإذا ماتم التدقيق فعليا في قرار الحكومة نجد أن الصراع الدائر في أوساط الحكومة والليكود هو خلاف بين يمين متطرف ويمين ديني قومي على إياهما أكثر تشددا من الآخر إزاء الحقوق الوطنية الفلسطينية، وبالتالي فإن هذه القرارات التي (جهد شارون )على أخذها او على الأقل حاول إيحاء للعالم بإنه خاض مغامرة كبيرة للتوصل إليها كادت أن تودي بحكومته، من اجل تسهيل تبليع الطعم للقوى الدولية والعربية المعنية والمتابعة للموضوع وحتى لا تمارس ضغوطا أكثر عليه.
إن القرار الأول للحكومة والذي ينص على أن (تقر الحكومة خطة الانفصال المعدلة ملحق أ، لكن هذا القرار غير كفيل بإخلاء مستوطنات ) وكما هو واضح فإن قرار الانفصال وارد لكنه لا يعني فك المستوطنات، وهذا يعني من جهة أخرى أن الانفصال عن الفلسطينيين شيء وفك الاستيطان عن أراضيهم شيء آخر ، وانه يمكن الانفصال عنهم ببناء جدران الفصل العنصري .
وإذا ما كانت هذه الصيغة المعدلة التي وافق عليها ائتلاف شارون الحكومي، فماذا كان الأصل، او بمعنى آخر أن شارون الذي يحاول إقناع الإدارة الأمريكية وهي تعيش مأزق العراق وعلى أبواب التحضير لقمة الدول الصناعية الثمانية، بإنه ماض في تعهداته للرئيس بوش والتي حصل على أساسها رسالة الضمانات منه، فإن هذا القرار الذي يقرئ من عنوانه لا يمكن أن يكون ذو مصداقية على الأقل عند أي طرف يعلم تماما مراوغة شارون وتنصله من تعهداته.
أما القرار الثاني المتصل ببدء الانسحاب فإنه ربط الموضوع مجددا ليس بالعودة للحكومة لتصادق على قرار إخلاء المستوطنات فحسب، وإنما هل يجب إخلائها أم لا من حيث المبدأ حيث نص القرار على التالي(تصادق الحكومة على تنفيذ أعمال التحضير المفصلة في الملحق ج. بعد الانتهاء من أعمال التحضير تعود الحكومة للاجتماع مجددا من أجل أجراء نقاش منفصل واتخاذ قرار هل يجب إخلاء مستوطنات أم لا، ما هي المستوطنات التي يجب تفكيكها، وما هي الوتيرة وذلك مع الأخذ بعين الاعتبار الظروف المواتية. وللمضي أكثر في كشف ما لا يمكن من قراءته من قرارات الحكومة الإسرائيلية فإن شارون ذهب في كلمة له بعد التصويت على القرار، أن إسرائيل لا تنوي الاقتراح على الفلسطينيين أكثر مما ورد في خطته المعدلة، كما حذر الفلسطينيين من مواصلة ما أسماه "الأعمال الإرهابية" مستندا الى ما تتيح له رسالة بوش من حرية التصرف وتنفيذ عمليات عسكرية داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة.
كما أنه أوضح جدوله الزمني لإعادة الانتشار من آذار القادم وحتى نهاية عام 2005 تنوي إسرائيل الانسحاب من غزة ومن أربع مستوطنات في الضفة الغربية، مشددا إن إسرائيل لن تقدم أكثر من ذلك للفلسطينيين.
أما الملحق "ج" الذي تضمنته خطة شارون المعدلة فيشير الى انه وخلال "المرحلة الانتقالية منذ اتخاذ القرار، وهدف إعادة الانتشار من طرف واحد، ومن خلال الحفاظ على سير الحياة العامة والسليمة في الطرف الأخر (المقصود المستوطنات)، تسري التعليم التالية على المستوطنات والمناطق التي تتضمنها الخطة". وفي البند "أ" جاء: "تتواصل الأعمال البلدية والمجتمعية المتعلقة بسير الحياة السليمة وتقديم الخدمات التي يستحقها السكان (المقصود المستوطنين)، وهذه تتواصل بشكلها الاعتيادي بما في ذلك الخدمات التي يقدمها المجلس الإقليمي وجهاز الأمن، التعليم، الرفاه، الاتصالات، البريد، المواصلات العامة، الكهرباء، المياه، خدمات الصحة، البنوك وجميع الخدمات التي كانت قائمة قبل اتخاذ القرار".
ويتيح هذا البند للمستوطنين، ليس فقط الاستمرار بالاستيطان على الأراضي الفلسطينية المحتلة، وإنما أيضا توسيع المستوطنات (في إطار الخدمات والحياة التي كانت قائمة قبل اتخاذ القرار). ورغم أن البند "ب" يتيح للحكومة تجميد أي خدمات أو مشاريع جديدة في المستوطنات، إلا انه أضاف تحفظا آخر على هذا البند يفرغه من مضمونه، وذلك تحت بند "لجنة الاستثناءات" التي تتيح إعادة المصادقة الى المشاريع المجمدة.
أما وبعد أن تبينت وبوضوح خطة شارون المعدلة وزال أي التباس حولها بعض تصويت حكومة شارون المسرحي عليها، فإن جملة من الأسئلة البديهية تطرح نفسها وبإلحاح شديد من اجل إزالة اللبس الداخلي الفلسطيني حول هذه الخطة خاصة أن البعض قد ذهب مبكرا للترحيب بها قبل صدورها ورأى فيها ما يمكن ربطه بخطة خارطة الطريق.
وأول مسالة يجب إجلائها في دائرة النقاش الفلسطيني- الفلسطيني الداخلي، أن شارون بعكس ما يتوهم البعض انه يعيش مأزقا داخليا دفعه لتعديل خطته، وانه مضطر تحت ضربات الانتفاضة والمقاومة الانسحاب من غزة.
إن هذا المنطق والقراءة للوضع تقود الى استنتاجات خاطئة، وبالواقع أن شارون لديه الآن خيارات أوسع بكثير من أي وقت مضى فهو يتمتع بدعم غير مسبوق من الإدارة الأمريكية وهو الأمر المهم والأساسي لأي رئيس حكومة إسرائيلي، والثاني إن قوى المجتمع الإسرائيلي تدعم الانسحاب من غزة ولأسباب مختلفة، كما أن التهديد بسقوط حكومته غير وارد حيث أن حزب العمل تقف معظم قيادته بجانب الهاتف ليتصل بها شارون ويطلب منها الانضمام للحكومة، ولديها أي هذه القيادة من المبررات ما تقوله لقواعدها بأنها تدعم مشروع هي طالما تبنته ونادت به. أما موضوع الانتفاضة والمقاومة فإنه رغم أهمية هذا العامل في وصول شارون وزمرته لقناعة بان استخدام القوة والمزيد منها لإخضاع الشعب الفلسطيني غير مجدية، فإنها من جانب آخر تطرح سؤال لماذا إذا وقف إطلاق النار في أساس كل مبادرة، وهل من مصلحتنا فعلا وقف إطلاق النار ما دمنا نحقق كل هذه المكاسب والانتصارات وهل خطة شارون للانسحاب من غزة فعلا تساوي هذا الادعاء.
إن التدقيق والقراءة المعمقة بالواقع مسالة في غاية الأهمية لتحديد حركتنا السياسة في ظل مناخات دولية وإقليمية، لا تبدو فيها أية أفاق سياسية قبل انتهاء الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وكما إن شارون يبذل كل الجهود لملء هذا الفراغ السياسي، فإن الفلسطينيين، ومن منطلق مراكمة الإنجازات والحرص على عدم تبديدها ، واستنادا على المبادرة المصرية التي كما هو معروف تحظى بدعم أوروبي وعربي ، ومباركة أمريكية ، نجد أنها وفي اشتراطاتها المتعددة وفي محاولة ربطها بخطة خارطة الطريق تتناقض موضوعيا مع خطة شارون ، وبتالي يصبح لزاما هنا وبعد أن أبلغت القيادة الفلسطينية ترحيبها وموافقتها على المبادرة المصرية الإطار دولية الأبعاد مطالبة الأشقاء بمصر ومن يساندهم ، بالبدء الفور بتطبيقها ليس انطلاقا من فهم شارون وقرار حكومته الذي لا يعني شيئا ، بل انطلاقا من القناعة الدولية بان الانسحاب من غزة يجب أن يكون شاملا وكاملا ، وان يحافظ على التوازي والترابط مع الضفة وفي إطار تطبيق خطة خارطة الطريق ، وبما يؤمن التبادلية والالتزامات المتقابلة فيما يتعلق بوقف العنف والعمليات بين الطرفين .
إن هكذا موقف متوازن في مضمونه ومحتواه، مع ضمانات تطبيقه على الأرض برعاية دولية ورقابة فعالة من الممكن أن يكون بداية لتحريك العملية السياسية ، لكن دون ذلك فإن شارون ومشاريعه لا تعدو أن تكون كالمثل الشائع تسمع جعجعة ولا ترى طحينا .