في الوقت الذي تخوض فيه الأحزاب الإسرائيلية اليمينية جدلا حادا حول ما إذا كانت ستقبل مشروع أرييل شارون بالانسحاب الانفرادي من غزة، يكون مفيدا لو تذكرنا تجارب إسرائيل السابقة في هذا المجال: أي انسحابها الانفرادي من لبنان. ومع أن ذلك الانسحاب يذكر حاليا باعتباره نوعا من الفشل، إلا أنه يستحق إعادة الاعتبار. فقد كان إنسحاب إسرائيل من لبنان نصرا استراتيجيا كبير الأهمية، ويرجع ذلك لأسباب من المفروض أن تكون قد حظيت بدراسة معمقة من جانب اسرائيل.

ولنبدأ بذكر بعض الحقائق الهامة: بعد سنوات من حرب العصابات التي تكبدت فيها إسرائيل خسائر فادحة، في الأرواح والمعدات، انسحبت إسرائيل من جنوب لبنان في مايو (أيار) 2000، ومن طرف واحد، إلى الحدود المعترف بها دوليا. وفي يوليو (تموز) 2000 أجازت الامم المتحدة القرار رقم 1310، مؤكدا أن «إسرائيل قد سحبت قواتها من لبنان وفق القرار 425».

وبتنفيذ ذلك الانسحاب الذي اعترفت به الأمم المتحدة، انقلب الوضع رأسا على عقب: إذ انتقلت إسرائيل من احتلال الموقع الأدنى أخلاقيا واستراتيجيا، إلى احتلال الموقع الأعلى أخلاقيا واستراتيجيا. وعندما كانت إسرائيل تحتل جنوب لبنان كانت تعاني من حرب عصابات لم يكن في مقدورها مطلقا أن تستفيد فيها من تفوقها العسكري الشاسع. وكانت تنازل حزب الله جنديا لجندي. والأسوأ من ذلك أن أي هجوم من حزب الله على إسرائيل كان ينظر إليه كإجراء مشروع من وجهة النظر العالمية. ولكنها عندما انسحبت، اصبح في مقدورها أن تستخدم تفوقها الجوي لترد على أي هجوم من حزب الله، دون أن يعبأ العالم بما تفعله. ويقول المعارضون: «هذا صحيح. ولكن الفلسطينيين فسروا انسحاب إسرائيل باعتباره نوعا من الضعف، وهذا ما جعلهم يفجرون الانتفاضة الثانية».

حسنا، ربما شاهد الفلسطينيون كثيرا من البرامج الدعائية في قناة حزب الله. وهذا خطؤهم. ولكني سأنبئكم بمن لم يخطئ في قراءة المغزى الصحيح للانسحاب الإسرائيلي: إنها الأطراف التي وُجه إليها ذلك القرار: أي حزب الله ولبنان وسورية. فحزب الله يعرف تماما أنه لا يمكن أن يشن هجوما جديا على اسرائيل من داخل لبنان، دون أن يؤدي ذلك إلى حملة انتقامية رهيبة تدمر فيها كل محطات التوليد الكهربائي في بيروت. وهذا سيصب الغضب من جميع اللبنانيين على حزب الله. فالرأي العام اللبناني لن يتعامل مع أي هجوم يقوم به حزب الله على اسرائيل دون استفزاز مسبق، باعتباره عملا شرعيا، أو يستحق التضحية من أجله ما دامت إسرائيل قد انسحبت من لبنان وعادت إلى لبنان سيادته. قال شبلي تلحمي، البروفسور في دراسات الشرق الأوسط بجامعة ميرلاند: «في كل النزاعات، يتوقف التأييد المحلي والعالمي، الذي يحظى به طرف من الأطراف، ومقدرة مؤيديه على تحمل مستويات جديدة من الآلام، على مدى الشرعية الدولية التي تحظى بها قضيته. وبمجرد انسحاب إسرائيل من لبنان إلى الحدود الدولية المعترف بها، انتقل عنصر الشرعية من حزب الله إلى إسرائيل. وربما يبدو هذا أمرا مجردا ونظريا، ولكنه ليس كذلك في الواقع».

فعندما تكون الشرعية في جانبك، فإن شعبك والعالم يؤيدانك أكثر، وعندما لا تكون الشرعية في جانبك فإن شعبك والعالم يقل تأييدهما لك بنفس القدر. صحيح أن الحدود بين إسرائيل ولبنان ما تزال متوترة ولكن عدد الإسرائيليين الذين قتلوا هناك كان قليلا جدا منذ الانسحاب الإسرائيلي قبل أربع سنوات. هذه هي فكرتي عن السلام. فلا يمكن أن يكون هناك نصر كامل على حزب الله أو على الفلسطينيين، من قبل إسرائيل، دون أن يترافق ذلك مع الإبادة الشاملة. ولكن هناك احتمالات الوقف المتطاول لإطلاق النار، مع احتلال إسرائيل للأرضية الأخلاقية العالية حتى تمضي في شؤون حياتها العادية. وفي شمال إسرائيل يستطيع الإسرائيليون اليوم أن يركزوا على ما يريدون، وهو صناعة رقائق الكومبيوتر، وأن يتركوا أهل جنوب لبنان السيئي الحظ في لبنان والذين يحاصرهم نظامان أعلنت وفاتهما الدماغية قبل زمن.

إن الدرس الذي ينبغي أن تتعلمه إسرائيل واضح جدا. إذا كنتم تريدون أن تنسحبوا من غزة من طرف واحد، فانسحبوا كل الشوط حتى آخر الحدود المعترف بها دوليا. لا تذهبوا إلى منتصف الطريق وتتوقفوا هناك، لأنكم حينها ستذوقون الأمرين، وستكتوون بنارين; أي أنكم لن تتخلصوا من حرب العصابات، وستقع وسطكم الضحايا، ولن تتمكنوا من استخدام تفوقكم الجوي، كما أن اللوم سيقع عليكم في كل شيء. وربما تكون غزة أسهل من جنوب لبنان، لأن السلطة الفلسطينية والسلطات المصرية لن تكون لديهما مصلحة في المحافظة على غليان الأوضاع في قطاع غزة، بعد انسحاب إسرائيل، لأن ذلك سيقوي «حماس».

يصر اليمين الإسرائيلي على القول إن إسرائيل محاطة بأعداء لا يمكن إرضاؤهم في كل الأحوال. وهذا ربما يكون صحيحا. وربما يكون كل أمل إسرائيل هو أن تحصل على نوع أخف من عدم الأمان مع جيرانها. وإذا كان الأمر كذلك، فإنني سأختار النموذج اللبناني. وهو أن تخرج إسرائيل إلى الحدود الدولية المعترف بها من قبل الأمم المتحدة وتتعامل مع أعدائها من أرضية أخلاقية عالية. فمثل هذا الموقف على الربوة الأخلاقية العالية، يعطيها منظرا أجمل، كما أنه أكثر أمانا من جميع المواقف الأخرى. - الشرق الاوسط -