بعد إقرار المجلس التشريعي في جلسته المنعقدة يوم التاسع من شهر حزيران الجاري ، تقرير اللجان الثلاث القانونية ، والرقابة وحقوق الإنسان ، والموازنة والشؤن المالية ، والذي كشف عن قيام عدد من الشركات الفلسطينية بتسريب الإسمنت المصري التي إستوردته للسوق الفلسطينية الى السوق الإسرائيلية ، والذي يعتقد أنه إستخدم لبناء جدار الفصل العنصري ، تنجلي أولى مراحل التحقيق والإدانة لهذة الجريمة الجنائية الكبرى التي أرتكبت بحق الوطن والمواطن الفلسطيني.
ويعود الفضل في كشف تداعيات هذه الجريمة الى لجان مقاومة التطبيع في مصر التي كشفت قبل عدة أشهر عن قيام شخص يحمل الجنسيتين الإسرائيلية والألمانية يدعى " زئيف بلنسكي " بتوقيع إتفاق مع شركة مصر بني سويف للإسمنت ، لشراء 120 الف طن من الإسمنت لصالح السوق الإسرائيلية في الوقت الذي تسارع فيه بناء جدار الفصل العنصري في أراضي الضفة الغربية المحتلة ، وبعد تسريب ونشر هذه المعلومات في صحيفة " العربي " الناصرية ، ألغي الإتفاق المذكور وتوقف توريد الإسمنت الى الشركات الإسرائيلية ، مما دعى" بلنسكي " الى البحث عن وسطاء فلسطينيين لشراء ونقل الإسمنت من مصر الى إسرائيل ، فوجد بعض الشركات الفلسطينية التجارية التي دفعها الجشع والحصول على الربح الفاحش والسريع ، الى الإستجابة لعرضه السخي مغلبة مصلحتها الخاصة على المصلحة الوطنية العليا ، وبدأت هذه الشركات بإستصدار أذونات إستيراد للإسمنت المصري من وزارة الأقتصاد الفلسطينية لإحتياجات السوق الفلسطيني ، ومن ثم قامت بتسريبه الى السوق الإسرائيلي بواسطة شركة النقل التي يملكها " بلنسكي " نفسه ، حيث كانت هذه الشركة تنقل الإسمنت من مصنع بني سويف الى معبرالعوجا ثم الى معبر " نتسانا " الإسرائيلي حيث يتم تحويل ملكية الإسمنت من هذه الشركات الفلسطينية لصالح شركة " بلنسكي " لإدخالها الى السوق الإسرائيلي. وقد أكد تقرير اللجان الثلاث للمجلس التشريعي التي كلفت بالتحقيق في هذا الموضوع من خلال التحقيقات والتدقيقات التي أجرتها مع الشركات الفلسطينية المتهمة ومع وزارة الإقتصاد والمالية الفلسطينيتين وشخصيات رسمية أخرى ، ومع الأشخاص ذوي العلاقة في مصر قيام الشركات الفلسطينية بإدخال الإسمنت الى السوق الإسرائيلي. .
وبغض النظر عن كميات الإسمنت المسربة الى السوق الإسرائيلي ، وعمليات التحايل التي إستخدمت في ذلك وعن صفة المتورطين أو المسؤلين مباشرة عن ارتكاب هذه الجريمة ، أو صفة الذين لم يتخذوا الإجراءات الكافية لمنع ووقف هذه الجريمة من الإستمرار لفترة من الوقت ، فإن المسؤلية يجب أن تطال هؤلاء جميعاً . وفي هذا الِشأن فإن المسؤلية تجاه هذه الجريمة مزدوجة ، فهي من جهة مسؤولية جنائية تقع على عاتق القضاء للحكم فيها ، وعلى النائب العام تقع مسؤلية التحقيق في التهم المنسوبة للجناة ، وتقديمهم للقضاء لإيقاع العقوبات التي ينص عليها القانون ، على كل من تثبت إدانته بغض النظر عن موقعه وصفته ، وحتى تأخذ العدالة مجراها في بلادنا ، وحتى يخضع الجميع لحكم القانون إعمالاً لمبدأ سيادة القانون وخضوع الجميع لأحكامه، وأن لا أحد فوق القانون ، بغض النظر عن موقعه وصفته .
وهي مسؤلية وطنية وسياسية من جهة أخرى ينبغي أن تضطلع بهما وتمارسهما السلطتين التنفيذية والتشريعية تجاه كل المدانين في الإهمال والتقصير عن أداء الواجب في هذا الشأن ، وذلك في إطار المحاسبة والمساءلة وحجب الثقة وكل ما يتطلبه ذلك من إجراءات إدارية وتأديبية ضرورية إعمالاً لمبدأ المحاسبة والمساءلةالشفافية .
وقد صنع المجلس التشريعي خيراً عندما قرر إحالة المتهمين الى النائب العام للتحقيق معهم وتقديمهم للقضاء وإحالة المسؤلين الآخرين في الوزارات و في مواقع المسؤلية الأخرى ، المتهمين بالتقصير والإهمال الى السلطة التنفيذية لمحاسبتهم عن ذلك .
ونأمل ان لا ينتهي دور المجلس التشريعي عند هذا الحد بل ينبغي أن يواصل دوره في الرقابة والمساءلة والمحاسبة الى حين إقفال هذا الملف المشين بإيقاع العقوبات الصارمة على كل المتورطين بإرتكاب هذه الجريمة الكبرى ضد الوطن ومصالح الشعب الوطنية العليا . ان محاسبة المسؤلين عن هذه الجريمة وتقديمهم للمحاكمة قد يدشن عهداً جديدا في إطار المحاولات المبذولة من أجل محاربة وإستئصال الفساد والتسيب التي لا يزال يعاني منها شعبنا ، خاصة وأن تقرير المجلس التشريعي بشأن التحقيق في هذه الجريمة قد كشف عن عدد كبير من التجاوزات ومظاهر الخلل الفادحة في عمل عدد من المؤسسات الرسمية ولدى عدد من المسؤلين وخاصة في وزارة الإقتصاد كما أشار التقرير الى " الفوضى والإهمال والتقصير في ممارسة وزير الإقتصاد مهام منصبه ومسؤلياته المقررة وفقاً للإصول" .
ان هذه الجريمة التي أرتكبت بحق شعبنا ومثّلت أخطر قضايا الفساد المالي والإداري والسياسي في مجتمعنا قد ألحقت ضرراً بالغاً بالمصالح العليا للشعب الفلسطيني على كافة المستويات السياسية والأقتصادية والوطنية والأمنية ، وكان من الممكن تقليل هذه الأضرار لو تم وقف هذه الجريمة منذ الكشف عنها في آذار الماضي بقيام الوزارة المعنية بمنع "الشركات المتهمة" من إستيراد الإسمنت المصري وتسريبه الى السوق الإسرائيلي خاصـة وقد كشفت التحقيقات أن وزارة الإقتصاد قد استمرت في إصـدار أذون الإستيراد لبعض الشركات المتورطة الى مابعد إنكشاف هذه الجريمة، وكان آخرهـا الإذن الذي أصدرتـه لإحدى الشركات بتاريـخ 13 / 5 / 2004.
ان المسؤلية الوطنية تقتضي من السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية القيام بمسؤلياتها في محاسبة جميع المتورطين في إرتكاب هذه الجريمة بحق الوطن والمواطن وعدم التسامح معهم بغض النظر عن صفاتهم ومواقعهم ، وتقديمهم للمحاكمة لينالوا العقاب الذي يقرره القضاء .
وهذا هو المحك والإختبار العملي لقدرتنا على إستئصال الفساد ومحاربته في مؤسساتنا الرسمية وغير الرسمية فهل ننجح في ذلك ؟ ونكسب ثقة الوطن والمواطن ، أم نغض النظر ونتغاضي ؟ ونكرر التجارب السابقة في التسيب وضعف المحاسبة والمساءلة ونعيش ونتعايش مع هذا الواقع المر والمرير، الذي لا يجلب لنا إلاّ مزيدا من الضعف والفساد والتدمير لشعبنا وللوطن بكل مكوناته وعناصره .