لم يتعرض بند من بنود القضية الفلسطينية, بعد أن باتت بنوداً ونقاطاً وفواصل, لمثل التلاعب والتشويه والتزوير الذي تعرض له حق عودة اللاجئين الفلسطينيين الى بلادهم وأراضيهم وممتلكاتهم. واذا كان لما يوصف بـ"وثيقة جنيف" الأخيرة بين يوسي بيلين وياسر عبد ربه من معنى, او مغزى, في الفصل الحالي من فصول القضية الفلسطينية, فهو اهالة حفنة تراب أخرى - وقد لا تكون الأخيرة - على هذا الحق الذي غالباً ما قرنته الأدبيات الفلسطينية, وعلى مر التاريخ, بعبارة أنه "غير القابل للتصرف".

اسرائيلياً, بدأ التزوير باطلاق كلمة "حق العودة" فقط على اليهود المنتشرين في أرجاء العالم, واعتبار ذلك "حقاً الهياً" لهم, وحتى "واجباً الهياً" عليهم, بما يتماشى مع المقولة التوراتية عن "أرض الميعاد". أما الحق الفلسطيني, المنصوص عليه والمعترف به في القانون الدولي, فكان يختصر تارة بـ"المعاناة الانسانية" للاجئين في المخيمات التي حشروا فيها, وتارة أخرى بـ"لم الشمل", وثالثة بـ"التعويضات الدولية - وليس الاسرائيلية - لهم", ولكن دائماً مع انكار لمسؤولية اسرائيل عن تهجيرهم القسري, وبالقوة المسلحة, من أراضيهم وأملاكهم في حملة تطهير عرقي تحدث عنها حتى بعض الاسرائيليين انفسهم.

دولياً, وأميركياً بالذات, وصل التزوير الى حد ان الرئيس الأميركي الأسبق هاري ترومان اختصر قضية اللاجئين الفلسطينيين في نهاية الأربعينات بأن وافق على اقتراح اسرائيلي باعادة 100 ألف لاجئ فقط تحت عنوان "لم الشمل", وقرن ذلك يومها - يا للمصادفة مع ما يطرح الآن !! - بالتعهد ببذل جهد لتوطين 100 ألف آخرين في العراق... والى حد ان توطين اللاجئين الفلسطينيين في البلدان التي يقيمون فيها بات في السنوات الأخيرة سياسة رسمية أميركية معلنة.

لكن الجديد, خصوصاً منذ اتفاقات أوسلو في العام 1993, كان انتقال كرة التلاعب بقضية حق العودة الى الجانب الفلسطيني ذاته, مواربة حيناً ومحاولة تذاك في تفسير معنى الكلمة حيناً آخر, ثم الى الجانب العربي في تغاض مقصود عما يجري تحت شعار "نقبل ما يقبل به الفلسطينيون لأنفسهم". وعملياً فلم تكن "مبادرة بيلين - أبو مازن" العام 1995, ثم "ورقة ايالون - نسيبة" العام 2001, وصولاً الى وثيقة "بيلين - عبد ربه" العام 2003, الا سلسلة تراجعات فلسطينية متدرجة عن هذا الحق تحت عنوان مبهم يتحدث عن "حل عادل ومتفق عليه لقضية اللاجئين الفلسطينيين". وهكذا فقد بات قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الشهير, القرار الرقم 194 للعام 1948, مجرد نص ميت لا تفعل المبادرات والبيانات والوثائق المتدرجة الا أن تدق المسمار تلو المسمار في نعشه, بينما لا يني اصحابها يتحدثون عن "الحل العادل والمتفق عليه".

ليس ذلك فقط, بل ان سلسلة الاتفاقات التي عقدتها منظمة التحرير الفلسطينية - ثم السلطة في ما بعد - مع اسرائيل والولايات المتحدة, فضلاً عن السياسة التي تمارسها هذه السلطة في ظل هذه الاتفاقات, لا تخرج في التحليل الأخير عن مضمون تلك المبادرات, ولو أنها أحجمت حتى الآن عن الموافقة عليها رسمياً وعلناً. يؤكد ذلك نص القرار الرقم 194, الذي أعادت الجمعية العامة التصويت عليه سنوياً منذ العام 1948 حتى العام 1993 حيث لم يعد أحد يطرحه.

تقول الفقرة 11 من القرار ما يلي بالحرف: "ان اللاجئين الراغبين في العودة الى ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم, ينبغي ان يسمح لهم بذلك في اقرب وقت ممكن, كما ينبغي دفع تعويضات عن الممتلكات للذين يؤثرون عدم العودة, وعن الخسائر أو الأضرار التي لحقت بالممتلكات والتي ينبغي ان تدفعها الحكومات او السلطات المسؤولة طبقاً لمبادئ القانون الدولي أو الانصاف".

وهو, هذا الحق, بموجب النص الوارد أعلاه حق فردي ليس في قدرة سلطة أياً تكن, ولا في قدرة أي مفاوض أياً يكن بدوره, التفاوض عليه, فضلاً عن التنازل عنه.

لكنها الجغرافيا السياسية, يقول نصير عاروري في مقدمة الطبعة العربية لكتاب "اللاجئون الفلسطينيون - حق العودة" (*), وليس القانون الدولي ولا شرعة حقوق الانسان ولا قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي, هي التي تتحكم بهذا الحق الذي كان - ويجب أن يبقى على الدوام - حقاً غير قابل للتصرف. ولأن الجغرافيا السياسية تجسيد لموازين القوى, وهذه ليست في صالح القضية الفلسطينية حالياً ولا تالياً في صالح حق العودة, فقد بات هذا الحق عرضة لكل ما تعرض له من تلاعب وتزوير وتزييف.

أكثر من ذلك, فكون هذا الحق حقاً فردياً لكل لاجئ فلسطيني على حدة - وفق نص القرار - فمن غير الطبيعي وغير القانوني بامتياز عقد أية مفاوضات حوله بادعاء تمثيل هؤلاء الافراد واحداً واحداً, فضلاً عن اعتباره - كما ورد في المبادرات وحتى في الاتفاقات - من قضايا الوضع النهائي الى جانب قضايا الحدود والاستيطان والقدس وغيرها. وطبيعي بالتالي أن تتهافت أية ادعاءات اسرائيلية حول "الخطر الديموغرافي" الذي تشكله عودة اللاجئين الى ديارهم وممتلكاتهم, او حصولهم على تعويضات عن الأضرار التي لحقت بهم جراء الاحتلال والتشريد طيلة اكثر من نصف قرن.

من هنا, "ولأن للقضية الفلسطينية مبحثاً قانونياً كاملاً وجوهرياً جداً بالنسبة للحصيلة النهائية", يضيف عاروري, كان هذا المؤتمر الذي هدف في المقام الأول الى اعادة توكيد هذا الحق ودحض نظرية مادلين اولبرايت (وزيرة الخارجية الأميركية السابقة) القائلة ان قرارات الأمم المتحدة "منازعة وخارجة عن الموضوع وساقطة", والى توثيق وتدوين القصة الكاملة للتطهير العرقي الذي شهده العام 1948 على أرض فلسطين... وفي رأيه "ان هذا أمر ملح على وجه الخصوص بالنظر الى ان جيل النكبة يتلاشى باضطراد, بحيث لم يبق أكثر من 20 في المئة من الذين لا يزالون يذكرون فظائع 1947-1948, ولأن حفظ الذاكرة الجماعية في هذا الوقت تحديداً مسعى ملح للغاية وضروري لمساعدتنا في مواجهة اولئك الذين يريدون تصفية المسألة الفلسطينية, اما من خلال ديبلوماسية مصطنعة واما من خلال قوة جامحة".

هل يعني ذلك ان حق العودة قد تحول اذاً الى مجرد وثيقة ؟!, الى ذاكرة فردية او حتى جماعية ؟! الى مجرد قصة بين دفتي كتاب أو على شبكة الانترنت كما تقول معظم المداخلات ؟! أم ان النخب السياسية والفكرية - العربية وغير العربية - لم يعد لديها ما تفعله في شأن هذا الحق سوى اللجوء الى توثيقه, واضافته الى ذلك الكم الهائل من الوثائق والقرارات التي صدرت حول القضية الفلسطينية على امتداد أكثر من نصف قرن, بينما باتت القضية نفسها نتيجة للسياسات الدولية والعربية, بما فيها الفلسطينية منذ اتفاقات أوسلو, في مكان آخر تماماً؟!

هل هي القدرة على "النسيان" او الشجاعة عليه, وفق الدكتور ادوارد سعيد في مقالة له في الكتاب, هي التي جعلت بعض القادة الفلسطينيين يتصرف بالقضية كلها, فضلاً عن حق العودة, كما يتصرف الآن ؟! قال سعيد: "عندما سئل أحدهم - أحد هؤلاء القادة - عن شعوره تجاه تولي ارييل شارون وزارة الخارجية في وقت سابق, علماً أنه مسؤول عن سفك دماء فلسطينية غزيرة, أجاب هذا القائد بابتهاج "نحن جاهزون لنسيان التاريخ". ويعلق سعيد: "هذا شعور لا أستطيع أن أشاطره اياه, وأسارع الى اضافة أنني لا أستطيع ان أغفره له".

لعل هذه هي الأسئلة الكبيرة التي يطرحها الكتاب, وقبله المؤتمر في حد ذاته, مع الاعتراف بأهمية العمل التوثيقي الرائع الذي قاما به والأوراق القيمة التي قدمت في المؤتمر من قبل كل من نعوم تشومسكي, مايكل بربور, ايلان بابه, نور مصالحة, سلمان أبو ستة ونورمان فينكلستاين وغيرهم.

في مقدمة الكتاب, كما في الورقة التي قدمها عاروري في المؤتمر, رد كارثي على هذه الأسئلة... بمعنى انه رد يعبر عن الكارثة التي أنزلتها الحكومات والدول و"السلطات" بهذا الحق القانوني والشرعي للاجئين الفلسطينيين. يقول عاروري: "ان على الفلسطينيين, في السياق الراهن, البحث عن الانصاف بعيداً من حكومات راسخة ووسائل تقليدية, والتشديد عوضاً عن ذلك على بناء حركة شعبية دولية, والانتفاع بالبنى والوثائق الدولية في سبيل الانصاف".

كيف؟! يضيف: "ان المحكمة الجنائية الدولية, مثلاً, توفر طريقاً مهماً لطلب الانصاف في ما يخص الجرائم المقترفة منذ حزيران (يونيو) 2002. وليست الدعوى المرفوعة ضد شارون في شأن جرائم حرب ارتكبت في العام 1982, وهي دعوى معلقة الآن في بلجيكا, سوى مثل على ما يمكن فعله في سياق سلطة القضاء العالمية, وثمة دعوى مماثلة حفظت للتو في الولايات المتحدة, وفي الامكان حفظ المزيد من الدعاوي في الولايات المتحدة بموجب السلطة القضائية المحلية".

ويوضح فكرته, المقرونة بالدعوة الى عقد مؤتمر فلسطيني للعودة وتقرير المصير, بالقول: "حين تندرح القضايا قريباً (متى؟!) ضمن مضمار الجرائم ضد الانسانية, يجب أن يكون الانصاف قانونياً ويجب أيضاً حمايته من حلول براغماتية". - الحياة اللندنية -