أحسن فريقا فتح و حماس اللذان بدآ سلسلة اجتماعات في غزة، صنعاً بما فعلا، وبما نجحا في إشاعته من مناخ طيب، بين الحركتين. وبات من حقهما علينا، إسقاط حقنا في الحديث عن فضل الضغوط الخارجية، في تحقيق اللقاء، كما إسقاط حقنا في الحديث عن فضل الانسحاب الشاروني المفترض، من قطاع غزة، في إنشاء ضرورة اللقاءات المتتابعة، لبحث المحاذير وتفادي المخاطر. فقد كان طموحنا، دائماً، أن تلتقي الفصائل الفاعلة، بدون ضغوط خارجية، وأن تتحسس من تلقاء نفسها، موجبات التلاقي، وموانع التحشيد السياسي والفصائلي الخاطيء، وأن تُعلي من شأن القواسم المشتركة، وأن يكون الإحساس بالمسؤولية عالياً في كل الظروف، لأننا في النهاية، أبناء هذا الوطن، ومناضلون من أجل أهداف واحدة، المستغلق منها، علي فصيل، هو المستغلق علي كافة الفصائل، والممكن فيها، ممكناً بالنسبة لكافة الفصائل؛ الأمر الذي يقتضي معه ـ حكماً ـ أن تتقارب البرامج، لا أن تتباعد!
للعلم، كان شطب فكرة الانسحاب الكامل، من قطاع غزة، أيام التفاوض علي حجم إعادة الانتشار وشكله، أيام التفاوض علي تطبيقات أوسلو بسبب أحد أعضاء الوفد الفلسطيني. فقد اتخذ فريق حزب العمل المفاوض ـ أيامها ـ قراراً بالانسحاب الكامل من غزة، وتعمد تسريبه للوفد الفلسطيني. لكن أحد أعضاء وفدنا، قفز ليعترض، بذريعة ضرورة الربط بين مستوطنات الضفة، ومستوطنات غزة. كان الموقف آنذاك ارتجالياً، وينم عن خفة تفاوضية فلسطينية وبهللة. وأنا شخصياً لم أكتب حرفاً في الموضوع، في القدس العربي أو غيرها، رغم علمي بما جري، وذلك احتراماً لقدسية الربط بين الضفة وغزة، لأن صلة المنطقتين، تمثل لحمة الوطن. ولكن، أيامها، لم تُدع أية حلقة، من الكفاءات الفلسطينية السياسية والعسكرية، الي ورشة عمل سريعة، لدراسة الاحتمالين، والمفاضلة بينهما: الربط بين جناحي الوطن، في شكل إعادة الانتشار وحجمه، أو انتهاز الفرصة، لا سيما وأن ثمن التسوية، كان باهظاً علي المستوي السياسي والفكري. ففي تلك الساعة، تركنا الموضوع، لعبارة مرتجلة، قالها أحدهم. وستكون هناك وقفة طويلة، لمن يؤرخ، بعد حين، أمام تلك الساعة ومثيلاتها، بعد أن يصبح بالإمكان، جرد الخسارة التي مني بها الشعب الفلسطيني، في الأرواح وفي الممتلكات، بفعل تدخلات بعض المفاوضين، في أيام أوسلو وتطبيقاتها الأولي!
تضحيات شعبنا، وصموده، هي التي ستجبر أعتي الفاشيين، في الدولة العبرية، علي الرحيل عن أراضينا المحتلة، في العام 1967 في الضفة وغزة. ومن واجبنا، منذ الآن، أن نتنادي للتلاقي، وأن نكون ككوادر في الفصائل، وكفصائل، وكوطنيين فلسطينيين، مبادرين بشجاعة، وأن لا ننتظر وصفات جاهزة من فوق، لأننا مللنا الانتظار، ونحن ـ كـ فتح ـ لا بد أن نبادر أكثر، ولا ننتظر أن تنقذنا الأطر الحركية. وهذا الكلام ينبغي تعميمه، وأن لا يتردد كل فريق فتحاوي، يكون إيجابياً أو فاعلاً ومنسجماً، ويعرف ماذا يريد، بما لا يتعارض مع الصالح العام، بالتحرك في مكانه، وأن يتصرف بثقة عالية في النفس، لا يهاب ولا يتوهم أنه قصير القامة، حيال أية أطر. وحتي إزاء قضايا الأمن الاجتماعي، في مدن نابلس وغزة وخانيونس وجنين وغيرها، لا بد أن ينهض الفريق الفتحاوي، الذي يتحرك بإيقاع ذي محرك يعمل ولو بالمازوت، لأن أطر الحركة، لم تتفق بعد، علي الحطابين، الذين يمكن تكليفهم بإحضار شيء، نوقد به فرن قطارنا البُخاري!
في قطاع غزة، الذي لا يكون مقطع الأوصال، في وسعنا أن نقدم الأنموذج المضاد لتوقعات الأعداء. ولكي نقدم هذا النموذج، لا بد أن نغيّر وأن نبدل. ولكي نبدّل ونغيرّ، لا بد من تكريس كافة الحقوق الدستورية للمواطن الفلسطيني، بصرف النظر عن انتمائه أو عن مشربه. وهذا يقودنا الي التشارك في إدارة حياتنا. مضطرون لأن نخرج من أوهام كثيرة. الفتحاوي الوطني، ليس هو، منذ الآن، الذي يحسم خياراته في الناس وفي الكادرات، علي أساس أي وهم أنشأته أكاذيب انتماء. المسؤول المفضّل، عن الصحة أو الإسكان أو الشؤون الاجتماعية أو الاتصالات أو الزراعة أو العدل، أو أو ، لن يكون ذلك الذي اتخذ من مواقع النضال والسلطة، فضاءات للتكسب، وكان يأخذ من مقدراتنا، ثمن سياحته وأعراسه، تحت عنوان أنه من فتح لأن أبو طاقية، المؤهل النظيف، الذي لم ينتم لأي تنظيم، أو الذي انتمي لأية حركة، هو الأنسب لي ولأولادي ولمجتمعي، ولصورتي أمام خلق الله في العالم! عندما نُحسّن إدارة حياتنا، في أي جزء ينحسر عنه الاحتلال، ونقدم الأنموذج السياسي والحضاري والمجتمعي المحترم، نكون قد أسدينا للأجزاء التي لم ينحسر عنها هذا الاحتلال بعد، أفضل مساندة كفاحية، لا يضاهيها إطلاق صواريخ سكاد روسية الصنع. فإلي الأمام، فتحاً وحماساً وجهاداً، وفصائل قوية علي الأرض، بالروح التي فينا، لا بالروح الخافتة في الأطر، ومن تحت، لا من فوق، ومن اعتبارات الصالح الوطني، لا من أجندات الآخرين في الخارج. فنحن في زمن التوجيه التحتي، للأبنية الفوقية، وموجبات كفاحنا، تزداد يوماً بعد يوم، وكذلك التحديات! - القدس العربي -