العمل الأمني الفلسطيني، لم يُغلق ولم يُهمل، أقسام مكافحة التجسس، في كافة الأجهزة. غير أن النتائج المتواضعة، لهذه الأقسام، تأثرت بمجموعة عوامل ذاتية وموضوعية. الأولي غياب التكامل بين عمل مختلف الأجهزة، وضعف الكادر أو اكتفائه بمعرفة ما تيسر مما نُشر، من دراسات متقادمة، عن أساليب المخابرات الإسرائيلية، ووسائلها للإيقاع بضعاف النفوس، ممن تحولوا الي حُثالات ومجرمين، فضلاً عن حالة التمّاس، مع الوضع الإسرائيلي، في شبكات الاتصالات، وتقاطعات الطرق، ومنافذ العبور الي سوق العمل وغيرها. أما العوامل الموضوعية، فتكمن في تفوّق المثال الإسرائيلي، في الإدارة، وفي القوة العسكرية، وفي المتابعة، وفي تقاليد العمل الأمني، التي توهم الساقط، بأنه في موضع الأهمية والتأثير، وترسّخ تعلقه السيكولوجي المريض بـ المنتصر حتي وإن كان علي جماجم شعبه وأشلائه. ذلك فضلاً عن العامل الموضوعي، المتصل بترهل السلطة، وبضعف تقاليد العمل العام، وبحضور التجاوزات وتبجحات أصحابها، وسطوع نجمهم، الأمر الذي يؤخذ من جانب العدو، كوسيلة لتعميق الإحساس، لدي الساقطين، بلا جدوي المشروع الوطني، وبمساويء من يعبرّون عنه، وبحقيقة وجود حالات محصنة بأوضاعها أو بعشائرها أو بأزلامها.
وربما يكون هذا العامل ـ الأخير ـ قد أصبح في السنوات الأخيرة، هو وسيلة الدحرجة الإستخبارية الإسرائيلية، للساقط، من فوق شاهق، كالجلمود الصخري، بحيث لا يستطيع التوقف في منتصف المنحدر، مثلما وصفت دراسة أمنية، نشرها السوداني عمر هارون الخليفة، في كتابه: علم النفس والمخابرات واقتبسها عنه أحد الإخوة، في مقالة منشورة في مجلة رؤية التي تصدرها الهيئة العامة للاستعلامات!
الموضوع لا يحتاج الي تنظير طويل. فالنتائج المتواضعة، التي توصلت اليها الأجهزة الأمنية، علي صعيد ملاحقة هذه الآفات المخزية، ذات الوشايات القاتلة، هي بحجم عدد الكادر المؤهل، وبحجم المستثمر من موازنات العمل الأمني، لهذه المهمة الحيوية، وبفعل قوة الضمير الجمعي للناس. وربما يقول البعض، أن منهج العمل الأمني الفلسطيني، لم يولِ، في السنوات الأولي لقيام السلطة، هذه المسألة، الأهمية التي يتوجب أن تكون لها. لكن أجهزتنا الأمنية، التي تتشكل من وطنيين ومناضلين، كانت تميل بالسليقة لمنحي ملاحقة العملاء، وحققت بعض النتائج، مستفيدة من عوامل الضمير الجمعي للناس، ومن انتماء قادة الأجهزة الأمنية للحركة الوطنية، ومن قناعة الكادر، بأن العميل مخلوق خطر، ومجرم، ذو نزعة شريرة، لا يكترث بمصائر أبناء جلدته، ولا بأرواحهم، ولا علاقة له بالآدمية ولا بالأخلاق، وبالتالي ينبغي اجتثاثه!
في المؤتمر الصحافي لكادر من جهاز المخابرات الفلسطينية، هو أخونا نعيم أبو حسنين، سمعنا ما أثلج صدورنا، وأحسسنا بأن هناك زخماً مستجداً، في موضوع ملاحقة العملاء، وكان أبو حسنين محقاً في طلب التعاون من المجتمع، ومن الفصائل، لا سيما حركتي حماس و الجهاد الإسلامي لكي تتخطي الأجهزة الأمنية، العوائق الذاتية والموضوعية. وكان موضع الأهمية، فيما طرحته المخابرات الفلسطينية، هو إحالة ملفات العملاء الي النيابة، لكي يمثلوا أمام العدالة. وكان قائد جهاز الأمن الوقائي، الأخ رشيد أبو شباك، قد طرح مراراً وجهة آراءً مهنيّة مهمة، في الموضوع، مُشدداً علي ضرورة تفعيل العمل القضائي، لكي يُعاقب العملاء، ومبشراً بتوجهات أمنية، أكثر تركيزاً علي هذا الموضوع. من هنا، ينبغي القول، أن تقديم العملاء المقبوض عليهم، الي العدالة، سيعود علينا بعدة فوائد، إذ سيعطي فرصة ممتازة، للمجتمع، لكي يتابع شروحات النيابة، في محاكم مفتوحة، بحيث يستمع الناس، في المحاكم، الي التوصيف الأشمل، لخطورة التخابر مع العدو، ولفداحة الوشايات القاتلة، وتتوافر الفرصة، لكي يستمع المجتمع كذلك، لأقوال المتهمين عندما يصفون أنفسهم، ويروون حكاياتهم، فتتشكل ثقافة مضادة، لدي المتابعين ومن بينهم ضعاف نفوس، وسنعطي صدقية أكبر للعمل الأمني الفلسطيني، وللقضاء الفلسطيني، وبالتالي للسلطة نفسها. وبعد المحاكمات، يصبح من الأهمية القصوي، تنفيذ الأحكام، لأن عدم تنفيذها يؤذي العمل الأمني، ويؤذي السلطة، ويضر بالمجتمع، ويدفع الناقمين والفصائل، الي أخذ القانون باليد، مما يؤثر سلباً علي مكانة السلطة، ويفتح المجال للشطط والغلوْ والارتجال أو التنازع العائلي. كما أن الامتناع عن تنفيذ الأحكام، يؤثر في احتمالات تساقط آخرين أو تورطهم مع الإثم!
إن مقاضاة العملاء، وإنزال العقوبات بهم، باتت مطلباً حيوياً، للحفاظ علي زخم العمل الأمني، وعلي النظام العام، ولتفعيل القضاء نفسه، الذي يحتاج تفعيله، الي الحركة الدؤوبة، سريعة الإيقاع، علي هذا المسار النبيل!
وننوه، في الختام، الي ضرورة أن تُنسّق الأجهزة فيما بينها، وضرورة التنسيق بين الأجهزة والفصائل، والي أهمية التوغل المنهجي، في المجتمع، من قبل الأجهزة الأمنية. وحبذا لو كانت هناك لجان وعناصر للمناوبة، من متعاونين مع الأمن الفلسطيني، في كل الأحياء والشوارع، مثلما نري في العواصم العربية، التي تحكمها قبضات الأمن، فنلاحظ في كل شارع، وفي كل ميدان، شبان يجلسون فرادي، علي الطريق، طوال الليل، أو يتسامرون، كمجموعات، وهم عبارة عن عيون لأمن بلادهم. فنحن الأجدر باتباع هذا الأسلوب، في هذا الخضم الصعب! - القدس العربي -