تفحّص خطة شارون للانسحاب من غزة على ضوء التوافقات التي جرت مع بوش تبيّن مشروعية الموقف الفلسطيني الرافض للخطة. لم يكن ثمة مبالغة في رفض الفلسطينيين لخطة إسرائيل الأحادية المتعلقة بالانسحاب من غزة، كما لا يمكن إدراج هذه الخطة ضمن "قائمة الفرص الضائعة"، التي اعتاد البعض على وضع مسؤوليتها على عاتق الفلسطينيين وحدهم.

فهذه الخطة لا تمت لعملية التسوية بأية صلة، حتى أن شارون نفسه اعتبرها مستقلة عن "خريطة الطريق"، وأنها تأتي لاعتبارات إخراج إسرائيل من المأزق الذي يحيق بها، على مختلف الأصعدة: السياسية والأمنية والاقتصادية. إزاء ذلك كان من البديهي أن لا تلحظ هذه الخطة حقوق الشعب الفلسطيني ولا متطلباته وحاجاته، بعد احتلال دام أكثر من 37 عاماً؛ بدعوى عدم وجود شريك فلسطيني.

ولعل تفحّص خطة شارون للانسحاب من غزة، لا سيما على ضوء التوافقات التي جرت بينه وبين الرئيس بوش، تبيّن لنا مشروعية الموقف الفلسطيني الرافض لهذه الخطة، برغم من أنها توحي للوهلة الأولى بأنها تزيح عسف الاحتلال عن كاهل أكثر من مليون ونصف مليون من الفلسطينيين يكتظ بهم قطاع غزة؟ فهذه الخطة تتأسس على الركائز التالية:

1ـ احتفاظ إسرائيل بالسيطرة على معابر قطاع غزة البرية، وعلى مجالها الجوي والبحري، ومعنى ذلك أن قطاع غزة سيتحول إلى سجن أو إلى معزل كبير تتحكم إسرائيل بكل شاردة وواردة منه وإليه.

2 ـ تحويل خطة التسوية المؤقتة إلى تسوية طويلة الأمد (10 ـ 15 عاما)، ما يتيح لإسرائيل خلق وقائع جديدة تكرس وجودها الاستيطاني والاحتلالي في الضفة الغربية، تضاف إلى عقد من السنوات جرى تضييعه في التسويفات والمماطلات الإسرائيلية؛ ما يعني بأن إسرائيل نجحت في إطالة أمد المرحلة المؤقتة للحكم الانتقالي الفلسطيني، التي نصت عليها اتفاقات أوسلو (1993) ومدتها خمس سنوات إلى 25 عاما!

3 ـ انتزاع أراضي جديدة من الفلسطينيين، عبر تقويض مفهوم الخط الأخضر أو خط الهدنة 1949 أو خطوط 4 حزيران، باعتبارها خطوطا معترف بها لتحديد حدود إسرائيل، عبر ابتكار بدعة جديدة في القانون الدولي تتمثل بالاعتراف بسياسة الأمر الواقع بمفعول رجعي؛ خارج إطار التبادل أو التوافق مع الطرف الأخر المعني.

4 ـ إضفاء شرعية على جدار الفصل العنصري، الذي تحاول من خلاله إسرائيل توسيع حدودها بقضم أراض من الفلسطينيين ووضعهم في كانتونات وفي إطار السيطرة الإسرائيلية المباشرة.

5 ـ تصفية قضية اللاجئين عبر الانتهاء من حق العودة للفلسطينيين، وحصره بامكان عودة اللاجئين إلى الدولة الفلسطينية المفترضة، فقط. وفي هذا الإطار ثمة تسريبات تتعلق باعتزام حكومة شارون تسليم مستوطنات قطاع غزة، التي سيتم اخلاؤها ضمن الخطة، إلى البنك الدولي أو إلى جهة دولية، لتوطين اللاجئين الفلسطينيين المقيمين في قطاع غزة فيها؛ طبعا بعد أخذ تعويضات مجزية عن هذه المستوطنات.

6 ـ الإبقاء على المستوطنات الكبيرة في الضفة الغربية، ولاسيما في محيط القدس الكبرى، وضمها لإسرائيل. وكما هو معروف فإن تنظيم هذه المستوطنات في كتل كبيرة سيضعف التواصل الجغرافي بين المدن الفلسطينية كما أنه سيعزز من الخطط الإسرائيلية الرامية لتهويد القدس وإضعاف طابعها العربي. والجدير بالذكر أن عدد المستوطنين في الضفة الغربية يبلغ حوالي 420 ألف مستوطن (235 ألف منهم في منطقة القدس)، في حين أن عدد المستوطنين في قطاع غزة يبلغ حوالي 7500 مستوطن، وهذا يبين مدى الدجل المتضمن في عملية إخلاء المستوطنات، لا سيما إذا علمنا أن إسرائيل ستطالب لكل عائلة، من المستوطنين في غزة، بتعويضات إخلاء تصل إلى 500 ألف دولار!

7 ـ أكدت المداولات بين حكومة شارون وإدارة بوش أنه لا يمكن طرح أية خطط للتسوية ولا القيام بأية خطوة لتغيير هذا الواقع إلا بعد قيام قيادة فلسطينية يثق بها الطرفان! وهذا يعني أن الطرفين الإسرائيلي والأمريكي لا يريدان الاحتكام لمعايير الديمقراطية أي لإرادة الشعب الفلسطيني (كما ادعيا دوما)؛ وهذا يفسر رفضهما لعملية الانتخابات، كما أن هذا الأمر يعني رهن حق الشعب الفلسطيني بتقرير مصيره بالإرادة الأمريكية ـ الإسرائيلية، التي تريد قيادة عميلة أو على الأقل قيادة فلسطينية بمعاييرها هي!

8 ـ تنطلق خطة شارون من رفض أي تدخل أو تواجد دولي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ما يتيح له الاستفراد بمحاولاته الإمعان في البطش بالشعب الفلسطيني. وفي الواقع فإن شارون أخذ "كارت بلانش" من بوش حين منحه حق القيام بما يريد، بدعوى الدفاع عن النفس، وهو ما استغله شارون بدون أي تباطؤ، باغتياله الشيخ عبد العزيز الرنتيسي، وبتوجيهه التهديدات للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات.

على صعيد أخر فإن إسرائيل تحاول تحويل قصة الانسحاب من غزة إلى نجاح أخر لها. فإضافة إلى الميزات التي تحدثنا عنها، فإن خطة الانسحاب الأحادي تقترن بمحاولة إسرائيل تطوير منطقة النقب، عبر إسكان مستوطني قطاع غزة فيها وتقديم الحوافز والتشجيعات لهم بهذا الخصوص، وعبر استجلاب أموال كبيرة للاستثمار في هذه المنطقة، من الولايات المتحدة ومن البنك الدولي، وهي تقدر بحوالي 5 ـ 10 مليارات من الدولارات. وبرغم موقفهم الرافض لهذه الخطة فإن الفلسطينيين لا يستطيعون التنصّل من مسؤوليتهم إزاء كيفية التعامل معها. فالانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة، على كل الشبهات التي تحيط به، يأتي بنتيجة إخفاق إسرائيل بالسيطرة على الشعب الفلسطيني، وكنتيجة لكفاح الفلسطينيين الدامي والمرير الذي أظهر إسرائيل على طبيعتها كدولة عنصرية استعمارية، وهذا الانسحاب يعبر عن اعتراف شارون بفشل مشروعه الاستيطاني في غزة، كما أنه يكشف مأزق المشروع الصهيوني برمته، الذي بات يعيش هاجسه التاريخي المتمثل بما يسمى "الخطر الديمغرافي" (عدد سكان قطاع غزة 1.5 مليون فلسطيني)، وبتجسده على شكل دولة استعمارية عنصرية. وعدا عن ذلك فإن الفلسطينيين، في قطاع غزة خصوصا وفي الضفة عموما، هم الذين سيتأثرون من هذا الانسحاب، من النواحي السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، كما لا بد أن تتأثر مختلف جوانب العمل الفلسطيني. وهذا الأمر يفترض من القيادة (أو القيادات الفلسطينية) مراجعة سياساتها وحساباتها وترتيب أوضاعها استعدادا لتحديات لحظة الانسحاب من غزة، وما بعد الانسحاب من غزة.

ومشكلة الفلسطينيين أنهم في كل مرة يواجهون تحديات أصعب وأعقد من السابق، فقد أطلقوا انتفاضتهم، قبل أكثر من ثلاثة سنوات، من أجل التخلص من الاستيطان والاحتلال، فإذا بهم اليوم يواجهون مخاطر انتشار النقاط الاستيطانية في كل بقعة من الضفة الغربية. وبينما كانوا يطالبون بتجميد الاستيطان واقتلاعه من أراضيهم، إذا بهم يواجهون اليوم مخاطر اقتلاع أراضيهم منهم لضمها إلى إسرائيل. وبينما كانوا يكافحون من أجل فتح المعابر أمامهم وتعزيز التواصل بين مدنهم، إذا هم اليوم وجها لوجه أمام جدار الفصل العنصري وأمام مخاطر تحول مناطقهم إلى كانتونات منعزلة عن بعضها البعض. وبينما كانوا يطالبون بحق العودة للاجئين إذا بإسرائيل تلوح بامكان التخلص من عرب 48 (منطقة المثلث)!

والآن يأتي تحدي الانسحاب من غزة في ظروف داخلية وإقليمية صعبة، فالشعب الفلسطيني مستنزف ومنهك بعد أكثر من أربعين شهرا من الانتفاضة، والقوى الفلسطينية ليست على حال جيدة أو مناسبة، لجهة التوافق على استراتيجية سياسية وميدانية، وثمة غياب واضح للقيادة، في ظل الحصار الذي يخضع له الرئيس عرفات خاصة، يفاقم من شأنها طريقة صنع القرار الفردية والبعيدة على التقاليد المؤسسية والديمقراطية.

أما على الصعيد الإقليمي فإن الوضع العربي منشغل بتداعيات الاحتلال الأمريكي للعراق وبتداعيات الخطوات أو الاستفزازات الأمريكية للحكومات والمجتمعات العربية، في حين أن الوضع الدولي يحاول جاهدا كبح جماع التفرد الأمريكي وسياسة غطرسة القوة والحرب الوقائية التي تنتهجها إدارة بوش. لذا من الصعب على الفلسطينيين مواجهة التحدي الشاروني الجديد في حال استمروا بطرقهم وبأوضاعهم الحالية. - ميدل ايست اونلاين -