على الدوام ظل قطاع غزة بمثابة شوكة في خاصرة إسرائيل ومعلما تاريخا من معالم حركة التحرر المعاصرة للشعب الفلسطيني، حيث تم التأسيس لفكرة الكيانية الفلسطينية، وذلك في المؤتمر الوطني الأول الذي عقد فيه إثر النكبة بزعامة الحاج أمين الحسيني (1/10/1948)، والذي انتخب "حكومة عموم فلسطين". ومن قطاع غزة انطلقت الطلائع الأولى للعمل الفدائي (1955 ـ 1956)، التي دفعت لميلاد حركة (فتح) في منتصف الستينيات، والتي ضمت بين أبرز مؤسسيها شخصيات من لاجئي قطاع غزة من مثل القادة الشهداء: أبو جهاد وأبو يوسف النجار وأبو إياد. أيضا، من قطاع غزة اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الكبرى في العام 1987، ومنها انطلق التيار الإسلامي المقاوم؛ ممثلا بحركتي الجهاد وحماس.

على ذلك لم يكن مستغربا تصريح اسحق رابين (رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق) في مطلع التسعينيات، أي بعد حوالي ربع قرن من الاحتلال، بأنه "يتمنى لو يستيقظ ذات يوم ويجد غزة قد غرقت في البحر"! ما يعكس بجلاء يأس إسرائيل من قدرتها على فرض سيطرتها على هذا القطاع، الذي لعب دورا كبيرا في تعزيز الجدل بين الإسرائيليين بشأن عدم جدوى الاحتلال والسيطرة على شعب أخر. ولا شك أن هذا الجدل ما كان له أن يبلغ ما بلغه لولا حال ممانعة ومقاومة الفلسطينيين للاحتلال، ولولا عجز إسرائيل عن فرض املاءاتها عليهم.

وفي الواقع فإن الانتفاضة الأولى (1987 ـ 1993) ساهمت كثيرا في تشكيل قناعة غالبية الإسرائيليين بشأن ضرورة الخروج من جحيم أو مستنقع غزة، وهذا ما يفسر أن اتفاق أوسلو (1993) تضمن أولا الخروج الإسرائيلي من القطاع.

الآن فإن ما يلفت الانتباه هو أن الوعي بالعجز عن السيطرة على الفلسطينيين، خصوصا في قطاع غزة، انتقل حتى إلى أوساط حزب الليكود اليميني وإلى وعي قيادته، وهذا ما عبر عنه شارون باعترافه بأن الاحتلال مكلف للإسرائيليين أيضا، وبإعلانه إفلاس المشروع الاستيطاني الإسرائيلي في قطاع غزة، وصولا لطرحه خطة الانسحاب الأحادي من القطاع؛ من دون أي تفاوض مع الفلسطينيين. وحتى شاؤول موفاز، وزير الدفاع الإسرائيلي بات يرى أن "المستوطنات داخل قطاع غزة ليست في خريطة مصالح دولة إسرائيل"..لدرجة أنه صرح بأن "قطاع غزة ليس أرض آبائنا وأجدادنا..أنا ازعم أن الآباء المؤسسين لاتفاق "غزة وأريحا أولا" ارتكبوا خطأ حين سمحوا للمستوطنات الإسرائيلية بالبقاء في قطاع غزة."(معاريف 14/5)

وهكذا لم يعد غالبية الإسرائيليين يشعرون بأن لديهم ما يعملونه في القطاع، فهو ليس جزءا من "أرض الميعاد" في عرفهم. وفوق ذلك فهو ليس جائزة وإنما عبء سياسي وأمني واقتصادي وأخلاقي، بسبب مشكلات السيطرة على مليون ونصف مليون من الفلسطينيين الذين يفتقرون لأدنى شروط الحياة الكريمة، ما يعزز من مشاعر الإحباط والتطرف والغضب في صفوفهم. ومن كل الجهات فقد شكل قطاع غزة معضلة حقيقية لإسرائيل، فهذا القطاع الذي تبلغ مساحته 360 كلم مربع، هو من أكثر مناطق العالم اكتظاظا بالسكان، حيث يقطن فيه حوالي مليون ونصف مليون من الفلسطينيين.

ويشكل اللاجئون، الذين قطنوا القطاع بعد النكبة في العام 1948، حوالي 70 بالمئة من سكانه، ويبلغ عددهم اليوم حوالي مليون نسمة، أغلبهم يسكن في ظروف صعبة في ثماني مخيمات بائسة تشرف عليها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، التابعة للأمم المتحدة.

ومشكلة القطاع أنه يفتقر لمصادر المياه كما للموارد الاقتصادية (زراعة وصناعة وخدمات)، بالقياس للضفة الغربية، لذلك فإن نسبة الفقر في قطاع غزة كبيرة جدا، بسبب ارتفاع نسبة البطالة ونسبة التزايد البشري لدى الفلسطينيين فيه. وقد تفاقم الأمر بعد الانتفاضة نتيجة الاعتمادية العالية على العمل في إسرائيل، وفي المنطقة الصناعية في ايريتز، وكلاهما توقفا بسبب ظروف الحصار والانتفاضة والإجراءات الإسرائيلية القاسية، التي ترمي إلى تجويع الفلسطينيين وافقارهم وصولا لتطويعهم من الناحية السياسية.

وما يفاقم من مشكلة الاكتظاظ السكاني في القطاع أن حوالي 7500 مستوطن يسيطرون على 40 بالمئة من مساحته، في حين لا يبقى للفلسطينيين سوى 60 بالمئة من مساحة القطاع التي يقلص منها إجراءات الحصار وتقطيع أوصال القطاع.

ويلخّص المحلل زئيف شيف معضلة إسرائيل في غزة بقوله: "الأمر الاستراتيجي الذي لا يجب نسيانه هو: الحذر من الغرق في غزة...لا يدور الحديث عن مناطق هائلة، أو عن صحارى، أو عن ثلج عميق. المستنقع في القطاع هو مليون و400 ألف فلسطيني ينتشرون في مخيمات لاجئين باكتظاظ فظيع..وبعد نحو عقد من الزمن، سيصل العدد إلى نحو ثلاثة ملايين نسمة". (هآرتس21/5) وبرغم من إسقاط ناخبوا الليكود لخطة شارون المتعلقة بالانسحاب من قطاع غزة من طرف واحد، في الاستفتاء الداخلي الذي جرى مؤخرا، فإن غالبية الإسرائيليين يعتقدون بأنه لا يجب منح المتطرفين في الليكود حق تقرير مصير إسرائيل لوحدهم، وأنه لا ينبغي لبضعة مستوطنين التحكم بمصير غالبية الإسرائيليين وفرض أجندتهم على إسرائيل ووضعها في مكان حرج على الصعيدين الدولي والإقليمي.

وعن ذلك يقول المحلل الإسرائيلي آري شبيط: "الأمر انتهى. محاولة المستوطنات فرض إرادتها على مواطني إسرائيل لشن حرب ليست حربهم خطوة لا تغتفر. ومحاولة المستوطنين لتحويل الجمهور كله إلى لحم مدافع لأرض إسرائيل الكاملة يتطلب ردا حازما. بعد استفتاء الليكود الوضع هو: إما الإسرائيليين، وإما المستوطنين". (هآرتس13/5) ويخاطب ب. ميخائيل المستوطنين بقوله: "أيها الأشخاص الفارغون السيئون الذين تمسكون بدولة بأكملها وشعب بأكمله، بل شعبين اثنين من حلقهما ولا تتيحون فرصة. مللنا أكاذيبكم..تعرفون أنكم قد توجهتم إلى هناك لتنفيذ مهمة احتلالية. وجر الجيش والراية والطغيان والسيادة من ورائكم وتوسيع حدود المملكة..تل أبيب هي التي تدفع ثمنكم وليس العكس. كفى لقد سئمنا.اتركونا. (يديعوت أحرونوت 14/5) وبحسب استطلاع للرأي نشرته صحيفة يديعوت أحرونوت (14/5) فإن نسبة 71 بالمئة من الإسرائيليين هم مع الانسحاب من قطاع غزة ولو من طرف واحد، وثمة 68 من الإسرائيليين يرون أنه على شارون المضي بخطة الانسحاب من غزة برغم إسقاطها في استفتاء الليكود الداخلي. وعلى أية حال فقد عبر الإسرائيليون عن تحمسهم للانسحاب م غزة في التظاهرة التي نظمتها القوى اليسارية في ميدان رابين في تل أبيب يوم 15/5، والتي شارك فيها حوالي 150 ألفا منهم.

معنى ذلك أن فكرة الانسحاب من غزة باتت على رأس جدول الأعمال بالنسبة لإسرائيل، برغم من كل ما يحدث في غزة، وربما أن الحرب المدمرة التي يشنها شارون في القطاع، هي بمثابة الطلقة الأخيرة في جعبته، لتغطية انسحابه من هذا القطاع الذي شكل معضلة مزمنة لإسرائيل.

إن تفحص طريقة عمل شارون وتاريخه يؤكدان بأن هذا الرجل لن يسلم بإسقاط خطته، وأنه يعمل على تغيير الظروف التي تؤدي إلى تنفيذها ولو على مراحل، وبعد أن يقوم بحملة يبطش فيها بالفلسطينيين، لإعطاء الانطباع للإسرائيليين بأنه يخرج من غزة بوضع القوي (لا على طريقة الخروج من جنوبي لبنان). المهم من ذلك أن فكرة الانسحاب من غزة باتت موضع إجماع الإسرائيليين، ومن الصعب لجمها أو التراجع عنها، لاسيما بعد أن باتت في عهدة الإدارة الأمريكية واللجنة الرباعية.

أما بالنسبة للفلسطينيين فإن ما يهمهم من كل هذا الأمر هو انسحاب إسرائيل من أي شبر من أرضهم، سواء تم هذا الانسحاب برغبة إسرائيل أو رغما عنها، فالأمر سيان بالنسبة لهم، إذ أن هذا الانسحاب هو إنجاز للشعب الفلسطيني وثمرة من ثمار معاناته وكفاحه. - ميدل ايست اونلاين -