سواء حسمت الانتخابات لصالح الرئيس الحالي بوش كما تشير الدلائل أم لمنافسه جون كيري فإنها قد أظهرت حقيقة واحدة وهي أن الشعب الأميركي منقسم على نفسه تجاه مجموعة من القضايا التي تهمه بالتأكيد وتهم العالم إلى حد بعيد أيضا. فحدة التنافس التي عكستها أجواء الانتخابات والأعداد المتزايدة من المقترعين التي فاقت انتخابات العام 2000 والانقسام الحاد بين الجمهور الذي يبدو واضحاً في الأعداد التي حصل عليها كل من المرشحين، فالنسبة تكاد تكون متقاربة 51 في المائه لصالح الرئيس بوش و 48 في المائة لصالح كيري. إن أشار ذلك لشيء فإنه يشير إلى عدم قدرة الإدارة الجمهورية بعد أربع سنوات من حكمها أن تقنع الجمهور الأميركي بصحة سياستها في المسائل الأكثر إثارة للجدل سواء تلك المتعلقة بطريقة إدارتها للحرب على الإرهاب وعلاقتها بالعالم من حولها، أم تلك القضايا المتعلقة بمجموعة من السياسات الداخلية كالصحة والتعليم والاقتصاد والضمان الاجتماعي.
في العام 2000 نجح بوش بقرار من المحكمة العليا للولايات المتحدة التي رفضت قرار محكمة ولاية فلوريدا، حيث أجازت الأخيرة إعادة فرز الأصوات من جديد لكن العليا أبطلت القرار وبهذا فاز الرئيس بوش بفارق 537 صوتاً انتخابياً مكنته من الحصول على جميع مقاعد الهيئة الانتخابية البالغة 27 صوتاً لولاية فلوريدا. وهو فوز بقي الديمقراطيون متشككين فيه الى اليوم لكنهم قبلوا به احتراماً للدستور ولقرار المحكمة. هذه السنة فاز الرئيس بوش كما يبدو بفارق بسيط أيضا لكن ليس في عدد أصوات الناخبين الذين صوتوا له، وإنما في عدد أصوات الهيئة الانتخابية التي ستصوت له، حيث من المفترض أن يحصل على أكثر من 270 صوتاً بقليل، وهي حالة نادرة في التاريخ الأميركي لرئيس أخذ الفرصة لإقناع جمهوره بإعادة انتخابه لولاية ثانية وبالرغم من ذلك يحصل عليها لكن بفارق هامشي.
في العام 1992 فاز الرئيس كلينتون بحصوله على 370 صوتاً من أصوات الهيئة الانتخابية مقابل 168 صوتاً لبوش الأب، وعندما رشح نفسه لولاية ثانية في العام 1996 فاز أيضا بفارق كبير حيث حصل على 379 صوتاً مقابل 159 صوتاً لمنافسه روبرت دول. الرئيس ريغان فاز في ولايته الثانية في العام 1986 على منافسه الديمقراطي والتر مونديال بفارق كبير حيث حصل على 525 صوتاً مقابل 13 صوتاً، اما في ولايته الأولى في العام 1980 فقد فاز على الرئيس كارتر بفارق كبير أيضا وحصل على 489 صوتاً مقابل 49 صوتاً، وحتى في انتخابات العام 1988 التي انتصر فيها جورج بوش الأب على منافسه الديمقراطي مايكل دوكاكيس كان الفارق جليا، حيث حصل على 426 صوتاً مقابل 111 صوتاً لخصمه.
إن ما تظهره نتائج الانتخابات السابقة هو أن الشعب الأميركي قد أعطى تفويضاً لا يمكن التشكيك به لرؤسائه السابقين في إدارة شؤون بلادهم الداخلية والخارجية، وبالرغم من ذلك حرص الرئيس بوش الأب مثلاً وبرغم من التفويض التي تظهره الأرقام على الحصول على قرار من الأمم المتحدة لشن حربه الأولى على العراق وإخراج القوات العراقية من الكويت، ولم يستخدم ذلك التفويض للإطاحة بالنظام العراقي بالرغم من أن الفرصة كانت سانحة، فالجيش الأميركي وصل عدده حينها لنصف مليون جندي، وهنالك تفويض من الكونغرس مضافاً لتفويض آخر من الأمم المتحدة بالحرب. والرئيس كلينتون تردد كثيراً بقيادة الحرب ضد الصرب في العام 1998 بالرغم من الأصوات الكبيرة التي حصدها في انتخابات العام 1996 وبالرغم من طلب دول أوروبا المتكرر له بالتدخل عسكرياً لوضع حد للحرب في البوسنة. ما هو مهم هنا أن التفويض من الشعب الأميركي لرؤسائه للتصرف في قضايا مصيريه كان واضحاً بحكم نتائج الانتخابات وبالرغم من ذلك حرصوا جميعهم على التأكد من مسألتين: وقوف المجتمع الدولي معهم، وأغلبية واضحة مساندة لهم بين شعبهم.
في حالة الرئيس بوش الابن هنالك علامة استفهام كبيرة حول آليات عمل النظام الديمقراطي يثيرها نجاحه المتنازع عليه دائماً، وحدوثه إما بقرار محكمة أو بفارق نسبي هامشي. فالسؤال الذي يطرحه نجاح رئيس بفارق ضئيل لدولة بحجم ومكانة الولايات المتحدة وتأثيرها على الصعيد العالمي هو: هل يحق لهذا الرئيس أن يمارس سياسات خارجية قد تؤدي الى انقسام عالمي عميق ويكون انعكاسها وتأثيرها سلبياً على مختلف بلدان العالم برغم التفويض الهامشي الذي يتمتع به من شعبه؟ وتبدو المسألة ذات أهمية أكبر عندما يستمر الرئيس بممارسة نفس سياسته في حالة نجاحه لولاية ثانية بنفس الفارق الضيق. إن الخبراء في مراكز الأبحاث المتعلقة بالديمقراطية وأسسها مدعوون لمناقشة هذه المسألة وتناولها بعمق أكبر. في الحالة الأميركية أشارت استطلاعات الرأي بأن 55 في المائه من الشعب الأميركي يعتقدون بان بلادهم تسير في الاتجاه الخاطئ وبالرغم من ذلك أظهرت نفس الاستطلاعات إلى تقدم بوش على كيري بفارق بسيط في انتخابات الرئاسة وهو ما عكسته النتائج الفعلية. إن التفسير الوحيد لذلك هو أن الشعب الأميركي لا يرى في منافس بوش رئيساً له وهذا قد يكون له أسباب عديدة منها أن مواقف جون كيري تاريخياً لا تعكس مصداقية حقيقية، فالرجل صوت لصالح الحرب على العراق ومن ثم عاد ليقول بان الحرب كانت خطأً دون حتى تفكير بتقديم اعتذار لشعبه لوقوفه إلى جانب حرب أدانها لاحقاً، ومنها أيضا أن الرجل لا يتمتع بصفات الزعامة والكارزما الضرورية لجذب الناخبين إليه، لكنها في الوقت نفسه تعكس حقيقة أخرى وهي أن الأميركيين لا يرغبون باستمرار سياسات رئيسهم السابقة ويرون أنها تلحق ضرراً كبيراً بمصالحهم الداخلية والخارجية إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن أكثر من 70 في المائه قد قالوا بأن رئيسهم قد كذب عليهم في الموضوع العراقي.
إن التفويض الشعبي الواضح في المسائل التي تتعلق بمستقبل شعب وحياة أمه وفي ارتدادات سياسات هذه الأمة عالمياً هو ضرورة لا يمكن القفز عنها، ولهذا يجب أن لا يرى الرئيس بوش بنجاحه الهامشي تفويضاً مطلقاً من شعبه للاستمرار في نفس السياسات التي مارسها خلال ولايته الأولى. فجعله الشرق الأوسط مركزاً للحرب على الإرهاب دون حل جذري للصراع العربي الإسرائيلي قد أثبت عدميته، وبدلاً من محاصرة "القاعدة" وتجريدها من الأسباب التي تسمح لها باستقطاب أفراد جدد، سمحت سياسته المغامرة باحتلال العراق، بتكريس مفاهيم تنظيم القاعدة بين الناس بشأن الولايات المتحدة. وتجاهله للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وتأييده الأعمى لليمين الإسرائيلي المتطرف قد سمح للأخير بتنفيذ سياسته التي طالما سعى إليها وهي بكل بساطة إحكام سيطرته على الضفة الغربية بضم الكتل الاستيطانية لإسرائيل وتوسيع المستوطنات خلف الجدار الفاصل والسيطرة على القدس وحرمان الفلسطينيين منها. والتفويض الشعبي الواضح يكتسب أهمية أكبر عندما يكون النجاح مستنداً على عامل الخوف الذي رسخته آلة الدعاية الجمهورية في قلوب الناخبين، وفي مواجهة خصمهم الديمقراطي، حيث أن من المعروف أن الرئيس بوش قد استند في حملته الانتخابية إلى مسألة الأمن القومي وصور الولايات المتحدة كدولة تتعرض لهجوم دائم من الإرهابيين، لدرجه إظهارها كدولة محاطة بالغابات التي تخرج منها الذئاب من كل حدب وصوب في إحدى دعاياته الانتخابية. إن النجاح بفعل الخوف ليس تفويضاً. إن الحل لإشكالية الرئيس بوش التي يفرضها تفويض شعبي ناقص يكمن في انتهاج سياسة جديدة محورها السلام والأمن للجميع في العالم والرغبة بإعادة الاحترام والمصداقية للولايات المتحدة ليس فقط في أوروبا التي تجاهلها الرئيس بوش في ولايته الأولى وإنما في العالم العربي والإسلامي التي تسعى شعوبها إلى السلام والأمن أيضا. - الأيام -