ما حدث في خيمة عزاء غزة ليس محاولة اغتيال لأبي مازن ومحمد دحلان أو لأي شخص آخر من جماعة اوسلو لسلام الشجعان، لكنه بالتأكيد رسالة تحذير تجريبية قوية بعث بها الذين قاموا بإيصالها بأنفسهم وبدون وساطة او صناديق بريد ومراسلة. رسالة تؤكد على زوال الخطوط الحمر التي كانت قائمة في حياة عرفات ورحلت مع رحيله.
الرسالة كانت واضحة جدا وذات دلالة يصعب إخفائها، فقد دخل المسلحون وهم يهتفون ضد محمد دحلان وزير الأمن الداخلي السابق وضد أبو مازن وريث الرئيس عرفات في رئاسة اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية وكذلك المرشح المحتمل عن لجنة مركزية فتح لمنصب رئيس السلطة الفلسطينية في الانتخابات القادمة. وقد كان واضحا من حجم الإرباك والبلبلة داخل الخيمة ان الأوضاع خارج نطاق السيطرة الرسمية، وقد ذكرنا مشهد خيمة غزة بمخيم عين الحلوة جنوب لبنان وأوضاعه السوداء،حيث كل قائد أو زعيم مجموعة مسلحة يسير برفقة حراسه بشكل استعراضي مثير. وهذا يعني مما يعنيه ان الفوضى هي سيد الموقف. لكن أهم ما حملته الرسالة النارية أنها بينت حجم الخلافات داخل حركة فتح التي تعتبر العمود الفقري للبيت الفلسطيني وفي داخل الشارع الفتحاوي المسلح والمنقسم على نفسه. كما أظهرت بشكل جلي الخلافات القوية بين جناحي المقاومة والتسوية.
رغم عدم قناعة فئات كبيرة وقطاعات واسعة من الشعب الفلسطيني بتلك الأساليب كحل للخلافات فيما بينها. نتيجة لعدم ايمان الشعب الفلسطيني بالطرق العنيفة كوسيلة لحل الخلافات وتصفية الحسابات. ورغم معرفة هذا الشارع بخطورة الوضع وحساسيته بعد رحيل ابو عمار، الذي كان يمسك العصا مسكة الراعي المخضرم.إلا أن تلك المشكلة في خيمة غزة حصلت وكادت أن تتطور ولم يخفف من وقعها المدوي كلام ابو مازن نفسه ونفيه لوجود هتافات ضده وضد شريكه محمد دحلان ، مع ان الهتافات كانت مسموعة وواضحة. ولم يخفف أيضا من وقع العملية تلك كلام ياسر عبد ربه وغيره من رواد الجزيرة والعربية والفضائيات الأخرى.
من حسن الحظ انه لم ينتج عن العملية المثيرة في خيمة العزاء ما هو أسوأ مما حصل. فسقوط قتيلين برصاص الإخوة الأعداء أمر مؤسف ومحزن ومخجل، خاصة ان رحيل الرئيس الفلسطيني لازال يسجل إيقاعاته وبصماته حيث تحول عيد الفطر من عيد للفرح الى مناسبة للترح والحزن والتفكير بما هو قادم وآت بعد الختيار. وانقلب لمظاهر حزن عمت كافة أماكن وجود الشعب الفلسطيني. فمثل تلك الاشتباكات او الأعمال التي تؤدي لمصرع ومقتل الفلسطينيين برصاص إخوانهم تجعل المرء يفكر قليلا بمستقبل تلك البقعة الصغيرة من بلاد العرب المحتلة والمحاصرة. فالاقتتال والخلافات والعراك الداخلي مهما كانت الدوافع يربكون طريقة عمل الذين يريدون العمل الصحيح من اجل انتقال سليم للسلطات وأجراء انتخابات ديمقراطية ليس على رئاسة السلطة الفلسطينية فقط لا غير، بل على عضوية المجلس الوطني الفلسطيني الذي يعتبر أعلى سلطة فلسطينية تقود نضال الشعب الفلسطيني بشكل قانوني. فإحياء م ت ف أصبح ضرورة وطنية ملحة ولا مناص من العودة للمؤسسات الفلسطينية القانونية التي غيبها الرئيس الراحل ياسر عرفات وأمسك بها حتى مماته.
منظمة التحرير الفلسطينية التي تعتبر الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني ليست الآن ممثلا شرعيا ووحيدا لكنها قد تصبح وتكون هكذا حين تضم في أطرها وقيادتها ومؤسساتها كافة القوى الفلسطينية الفاعلة والمؤثرة وفي مقدمتها حركتا حماس و الجهاد الإسلامي في فلسطين. لكن لكي ينضم من هم خارج سرب المنظمة إليها يجب تعديل برامجها وتطويرها وصيانتها وبعث الروح في مؤسساتها وتصليبها وتفعيلها عبر إجراء انتخابات ديمقراطية للمجلسين الوطني والمركزي وكذلك للجنة التنفيذية. فبدون هذه الإجراءات سوف تشهد الأوضاع الفلسطينية حالة اضطراب وغليان وفوضى لا تبشر بالخير ولا تخدم القضية الفلسطينية العادلة. لذا على المعنيين في القيادة الفلسطينية الالتفات ولو الآن ورغم تأخر ذلك كثيرا للشعب الفلسطيني الذي دافع ويدافع عن الحقوق الوطنية الفلسطينية بكل قوة وجرأة ومصداقية.
رسالة التحذير في خيمة غزة أصبحت واضحة ولا بد من أخذها بعين الاعتبار والتعامل معها بجدية. ولا بد لمن يريد بناء الدولة ولو في أراضي غزة المحررة جزئيا أن يتعامل مع واقع موجود في الشارع الفلسطيني وان يخرج من فساد اوسلو ومدرستها التي دمرت القيم والأخلاق الفلسطينية الأصيلة. ولا بد لمن كانوا يتصرفون ويصرحون ويتحدثون نيابة عن الشعب الفلسطيني أثناء حصار وحبس الرئيس الراحل عرفات في المقاطعة برام الله ان يتوقفوا عن الإدلاء بتصريحاتهم والاستمرار في مشاريعهم المشبوهة لأن الذي كان يحميهم او يمنع محاسبتهم قد ذهب. وبذهابه تكون زالت كل الموانع والعوائق والخطوط الحمر بالنسبة لمن يرفض تلك التصريحات والمشاريع البغيضة.