لقائي الأخير مع ياسر عرفات كان قبل عدة أسابيع، في الخرائب التي صارت مقرا لسلطته، وقد اجتمعنا على وجبة عشاء فقيرة من الشوربة والخضروات، وكان يرتدي زيه العسكري المميز، بينما تتراكم الأوراق التي تنتظر توقيعه، ويقف المساعدون والزملاء الذين يريدون مقابلته لهذا الشأن أو ذاك. الانطباع الذي تحاول كل هذه الأشياء أن ترسخه لدى المشاهد، هو خلاصة ما يمثله عرفات: صورة المقاومة المسلحة، بينما يمكن لإسرائيل أن تقضي عليه في لحظة واحدة وبدون إعلان، الصورة الواهمة لآليات منتظمة لاتخاذ القرار، بينما حلت الفوضى والتشويش منذ فترة طويلة محل الحكومة، وقبل كل ذلك واقعية السلطة وامتلاؤها رغم كل ما يشهد بعكس ذلك. كان من بين زواره تلك الليلة محمد دحلان، قائد أجهزة الأمن في غزة، الذي كان قبل فترة قصيرة مضت قد تحدى القائد الفلسطيني في مواجهة سرعان ما تنازل عنها. وهو يملك السلاح والرجال. ولكن دحلان كان هو الذي يتحدث تلك الليلة، بينما كان عرفات يتظاهر بالاستماع. وقد كان واضحا لكل المشاهدين من كان الرئيس ومن كان المرؤوس.

بالنسبة لصانعي القرار الأميركيين، فإن مقدرة عرفات على ممارسة مثل هذه السلطة عبر العقود، ورغم كل الهزائم، كانت من الأشياء المحيرة، كما كانت مصدرا للأحكام الخاطئة من جانبهم، فقد كانوا يظنون أنه سيحكم عليه وفق الطريقة التي أدار بها الدولة ووفق ما حققه من إنجازات. وقد كان واضحا لديهم أنه قصر في الجانبين، واعتقدوا أن الفلسطينيين سيكون لديهم نفس الشعور. ولكن الفلسطينيين لم يكن لديهم نفس الشعور، ليس لأنهم لا يبصرون أخطاءه، فقد أكتووا بها أكثر من جميع الآخرين، ولكن لأنهم يشعرون أن عرفات، أكثر من أي سياسي آخر، يجسد أمته حرفيا. وبالنسبة لعدد كبير من الفلسطينيين فإنه قد جمع شعبا مشتتا، بلا دولة، بل منسيا في أغلب الأحيان، وأعطاه اسما، ووضعه على خريطة العالم، وأسبل عليه جناح حمايته من محاولات الإخضاع من قبل النظم العربية، بانيا حركة وطنية ومعززا لوجودها. ومن أجل كل ذلك فإنهم مستعدون للغفران المرة تلو الأخرى، وفي كل الأحوال. وقد قال لي أحد الفلسطينيين قبل فترة « سيتبعه شعبه دائما لأنه لم يخن، وهذا يعوض عن حقيقة أنه لم ينجز».

وقد أدى عرفات هذه المهمة، ليس من خلال القيادة، بل من خلال التمثيل، وهو أمر آخر أثار عجب الأميركيين. فهو لم يسع إلى فرض القرارات، أو الحكم بالقوة، أو إخضاع المنافسين من خلال المجازر والدماء، بل كان هو نفسه، واحدا من ثمار السياسة الفلسطينية أكثر منه زارعا لها، إنه التعبير عن إجماع وطني أثيري، وهو القارئ الأكثر إلماما ونفاذا للإمكانيات والحدود الفلسطينية. إن تجسيده للوسط السياسي الفلسطيني هو أهم عملة سياسية كان يملكها، وهذا ما جعله يقاوم كل النداءات للهجوم على «حماس» و«الجهاد الإسلامي»، أو فرض السلطة والقانون بالعنف، وهو السبب في أنه كان يخشى حتى اللحظة الأخيرة أن يؤدي انسحاب إسرائيل من قطاع غزة إلى نشوب نزاع على السلطة. والجانب الآخر لهذه المعادلة هو أن التعددية الفوضوية والصراعات الخاضعة للسيطرة كانت هي أدواته المفضلة التي تمنع بروز أو تعزيز أية قوة منافسة، كما تعطيه هامشا واسعا للمناورة في غابة من الضغوط المحلية والإقليمية والعالمية، وتزيد من مقدرته على فرض الوصاية. وهي كلها أدوات كان يعتبرها ضرورية للمحافظة على نفوذه الشخصي ولتحقيق الأهداف الفلسطينية، وهما هدفان لم يكن في مقدوره التمييز بينهما.

لهذا السبب نفسه فإن القائد الفلسطيني لم تكن لديه استراتيجية طويلة المدى، حتى لا نتحدث عن استراتيجية شاملة. كانت حياته قائمة على الحدس المباشر والمنفعة السياسية القصيرة الأجل، تقوده الرغبة المزدوجة للبقاء على المستويين الشخصي والوطني. من هنا تنبع علاقته المؤلمة والمعقدة مع السلام والعنف.

هذه الخصائص مجتمعة هي التي كانت تصوغ مناهجه المثيرة للغضب في التفاوض وعجزه المزعج عن اتخاذ القرار. ولكن هذه الخصائص نفسها هي التي مكنته من البقاء والمقاومة في المراحل الأولى من الحركة. ولكنها خصائص من الصعب نسيانها بمجرد تعلمها. وقد تبعته هذه الخصائص حتى مقره الأخير، أي المقاطعة، التي أقام فيها ثلاث سنوات. وطوال تلك الإقامة الجبرية ظل وفيا لشعاره الأساسي: إذا وقفت فاستقم، وإذا جلست فلا تتحرك. وفي كل حركة إسرائيلية وفي كل مبادرة أميركية، كان يكتشف محاولة لإضعافه وتقسيم الشعب الفلسطيني، وتعبئة كل طرف ضد الطرف الآخر، بإغراء البعض بالمزايا المادية، وجذب الآخرين بالوعود بأدوار سياسية أكبر في المستقبل.

كيف يمكن للنظام الذي أقامه عرفات أن يبقى بدون عرفات؟

عندما كان الرئيس الفلسطيني محتجزا في المقاطعة، كانت المادة التي تلصق أجزاء هذا البناء قد بدأت في التآكل. فسرعان ما تحولت الفوضى الخاضعة للسيطرة إلى تخريب فوضوي، مع تناسخ مراكز القوى- الاسر، العشائر والمليشيات المسلحة، الموالية كلها لعرفات، المعادية كلها لبعضها البعض. إن موته قد ترك ثغرة سخر حياته كلها ليضمن أنه لا يمكن أن يملأها غيره. وكان حوله ورثة محتملون، أسماؤهم معروفة، ولكن شرعيتهم، عكسه تماما، مستمدة ومشتقة ومعتمدة على مقدراتهم على جلب التأييد الخارجي، الدبلوماسي والاقتصادي، وعلى توفير الخدمات، ولكنها تستمد قبل كل ذلك منه هو شخصيا. إضعاف القائد الفلسطيني، والذي أنجزته أميركا وإسرائيل بصورة فعالة، لم يكن يعني تقوية أي منافس محتمل، وهو ما لم تستطع الدولتان فعله، بل فشلتا فيه فشلا ذريعا.

وإنه لتحدٍ عظيم أن ينتقل الفلسطينيون من نمط محدد للتنظيم السياسي، ويتعودوا على ولاء جديد، في جو يسيطر عليه الشعور بالخسارة الوطنية التي لا تعوض، والنزاعات التي لا تنتهي، والمعاناة الاقتصادية التي تفوق الوصف. وإنه لتحدٍ آخر لا يقل أهمية أن تشرع الإدارة الجديدة في السير في طريق بناء يساعد الفلسطينيين في نضالهم من أجل تحقيق هذا التحول والانتقال. إن هذا وذاك يحتاج إلى الشجاعة التي تمكن الفاعلين من صياغة صفقة سياسية عادلة وقابلة للحياة والقبول، للنزاع الإسرائيلي ـ الفلسطيني.

وفي نهاية المطاف، فإن عرفات كانت لديه المهارات السياسية والقيمة الشخصية الخاصة بالرموز، والتي تعني الكثير جدا والقليل جدا في نفس الوقت. وهو يترك وراءه هذا الإرث المزدوج: حركة وطنية ما تزال قائمة رغم الظروف العسيرة والخلافات الضخمة، وكينونة وطنية ما تزال تقعي على ركبتيها، وعيونها شاخصة إلى أفق موغل في المتاهة. كان عرفات يحب أن يرى نفسه أباً للأمة، وعلى خلفائه أن يفكروا بسرعة، إذا كانوا يريدون لليتيم أن ينعم بالحياة.

* مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بمجموعة الأزمات العالمية - الشرق الأوسط -