عندما كنت استيقظ من نومي، لم أكن أتفاءل بيوم واعد وجميل كباقي الشباب في سني، في أوطان أخرى. لم أكن اعد نفسي بيوم مشرق استقل فيه الحافلة متجهة إلى جامعتي كباقي البشر دون عناء أو مشقة. لم يكن السعي وراء العلم امرأ سهلا ولم تكن أيامي الجامعية زاهرة ومشرقة بل على العكس، فقد خلت من كل متعة أو إثارة.
كل فكرة أو أمنية، كل طموح أو رجاء، كان يصطدم بحاجز عسكري، أو بخبر عاجل أو باقتحام أو باغتيال.
كان همي الأول عند الصباح، أن أتأكد من وجود هويتي في الحقيبة والمحاولة الجاهدة للحفاظ عليها حين العودة، حتى استطيع الوصول إلى بيتي دون الاضطرار لارتياد الطرق الوعرة والتي ربما لن تحملني إلى وجهتي .
حصلت اليوم على شهادتي الجامعية. وبفضل الله وعائلتي ومجهودي كنت من المتفوقات، ولكن هذا لم يكن المجهود الحقيقي الذي بذلته. لقد ضاع الكثير من طاقتي في الطرق والحواجز والإغلاق، واستنفذت هذه الأوضاع القاسية الكثير من حماستي وقدراتي . لم أكن أتوقع يوما بان تصل آمالي إلى درجة التمني بأن لا يكون الحاجز العسكري مغلقا، وألا يقتحم جنود الاحتلال حرمنا الجامعي. نعم، لقد تكرر دعائي كثيرا بالقول (يارب ألاقي الطريق سالكة).. هناك الكثير من المواقف الجافة، التي في كل مرة كانت تترك أثرها في نفسي مرة الم وسخط ومرات قوة وإصرار .
كان ذلك اليوم حارا جدا وكنت اشعر بنعاس شديد كوني سهرت لدراسة امتحان قانون إدارة الأعمال. وبعد انتهائي من الامتحان عند الساعة الثالثة، اتجهت فورا لاستقبل الحافلة من بير زيت إلى رام الله.. لا يستغرق سوى ثماني دقائق ولكن ليس بوجود حاجز سوردا العسكري بالطبع لا.
عند الرابعة تماما، غادرت الحافلة من رام الله إلى قلنديا، الحاجز العسكري الشهير الذي يشهد كل يوم آلاف القصص والمواقف التي ربما لا تصدقها العيون ولا تكفي الأقلام لتوثيقها .
عند الساعة الرابعة والثلث وصلت إلى حاجز قلنديا، اتخذت مكاني في دور لا تبدو له نهاية. فهذا طفل رضيع يبكي من شدة الحر وهذا رجل مسن يبحث عن شيء يتكئ عليه وهؤلاء طلاب لا يرجون إلا العودة إلى البيت لينعموا براحة يمنعها عنهم حاجز إسمنتي .
أربعون دقيقة، وما زلت أقف هنالك أترقب سير الدور شخصا شخصا وألاحظ مدى تخاذل الجنود في تسيير الأمور وبين كل استراحة وأخرى يحتاجون إلى استراحة. وبينما هم في حماية من الحر الشديد نقف جميعا نتصبب عرقاً وقد أعيانا الإرهاق.
الحمد لله ليس أمامي الآن سوى شخصين. استعد للمرور، ابحث في حقيبتي عن الهوية فلا أجدها ابحث مرة أخرى وثالثة ودون فائدة. وعلى بعد مترين، أجد حجرا كبيرا اجلس عليه واخلي جميع إغراضي من الحقيبة علني أجد البطاقة التي توصلني إلى بيتي.. لا فائدة لم أجد تلك الهوية. وفي لحظات اعتقدت بأنها تحملني ولست من احملها نعم أنها تحملني.
لقد أدركت بعدها بأنني نسيت هويتي في حقيبة أخرى، يا لغبائي في هذه الأيام أن ننسى هويتنا هي الحماقة عينها .
اسمع ألان صوت الجندي ينادي انه دوري… بسرعة ويتعجرف وصوته عال قلت له لقد نسيتها بالبيت. ولكن الحق إني كنت خائفة بان يمنعني من المرور وإلا استطيع الرجوع إلى بيتي والحصول على قسط من الراحة الذي ما تمنيته قط كما تمنيته في تلك اللحظات.
ينظر إلي مطولا وكأنني فاجأته، بعد ذلك أهملني دقائق وبدأ ينادي على آخر وانأ أقف إلى جانب ذلك العسكري انتظر منه أمرا بمرور أو رجوع .
بعد أن تذكر بان هناك من ينتظر سماع رأيه في نسيان الهوية سألني كيف له أن يكون واثقا بأنني من سكان القدس، فأخبرته بأنه يستطيع أن يكون أكيدا لأنني أنا اخبره بذلك وليس لي أي إثبات آخر في ذلك الوقت.
عاد من جديد وأهملني وكأنه كان يفكر ما إذا يسمح لي بالمرور أم لا. في ذلك الوقت قمت بمكالمة والدي هاتفيا وأخبرته بان يرسل أيا كان من مكان عمله إلى البيت لكي يحضر لي الهوية إلى حاجز قلنديا …..تفاجأ أبي بنسياني لهويتي وبدا يعاتبني على الهاتف ولكن بدأت أفقد صوابي وأخبرته بأنني سوف احرقها حين تصلني .
ولم أقف في تلك الشمس الحارقة سوى ساعة من الزمن غير الوقت الذي وقفته في الدور بعد أن قرر الجندي بان السماح لي بالمرور مرفوض كوني لا املك أي إثبات بأنني من سكان القدس وحملة الهوية الزرقاء. لقد بدا آسفا لعدم سماحة لي بالمرور ولكن من تسمح له إنسانيته بمشاهدة كل أولئك البشر يصطلون في أشعة الشمس دون أن يحرك ساكنا يكون الشك بأمر إنسانيته أمرا طبيعيا .
بعد ساعة من الزمن حضر قريبي بعد أن كلمه والدي وطلب منه إحضار الهوية لي، جاء وسلمني الهوية ورجعت ووقفت في الدور مرة أخرى، ولكن هذه المرة احمل هويتي التي شعرت تجاهها بحقد بالغ وكراهية مفاجئة لقد أدركت في وقتها أن الكثير من وقتي وحظي وقيمتي مدرجين بين طيات تلك البطاقة اللعينة .
وبعد خمس عشرة دقيقة تقريبا قصدت الحافلة المتجهة إلى بيت المقدس وما هي إلا دقائق أخرى حتى توقفت الحافلة للتفتيش على حاجز عسكري آخر هو حاجز حزمة.
في تلك اللحظات شعرت بان شيئا ما يسلبني قدرتي على الاحتمال وأخذت أفكر مطولا في أولئك الذين يفقدون بيوتهم، يفقدون أحلامهم وحياتهم . وأفكر في أولئك الأمهات اللاتي يرسلن أطفالهن للموت من اجل سلب حياة الأعداء لقد بدأت اخلق لهم الأعذار بعد أن كنت شديدة المعارضة لذلك الاتجاه.
لم يتركوا لنا الخيار كل ما نحياه يجمد أرواحنا كل ما نشهده يخنق أحلامنا، نعم أنا الآن أجد المبررات لشباب لا يجد الشباب في حياته ولأطفال لم يشهدوا الطفولة أبدا.
لقد كنت دائما و كثيرين منا نرفض العنف كحل لقضية. كنا نعتقد أنها من الممكن أن تحل سلميا ولكن الجنود والمدرعات والدبابات والطائرات والهدم والدمار والاهانات والتعذيب كان لهم الدور، كل الدور في تحويل رأيي كليا وأصبحت أعي جيدا بان القوة بالقوة ومن سلب أرضا لا يمكن أن يردها إلا بسلب حياته.