"هناك مفتاح وسيط بين الفرد والمجتمع ألا وهو الذاكرة. وحين يحاول المرء أن يفصل بين الفرد والمجتمع فكأنه يحاول تمزيق قطعة واحدة من الورق".
إليزابيث تونكين
يا عائشة: لم أقرأ كتابك فحسب؛ لقد قرأني كتابك وأقرأني، وتدفق الماضي شلالاً من الذكريات. لم أستطع أن ألبس ثوب الناقدة مع كتابك. آثرت أن أتواصل معك بعد القراءة الأولى، وأن أترك مهمة التقييم النقدي لقراءة ثانية.
حضرت الصبية الصغيرة التي كنتها، وطالبتني بالبوح. وحين حاولت التعلل بمرور السنوات وتغير الظروف واختلاف المرحلة؛ سخرت مني الفتاة الطفلة، وطالبتني بحقها في الكلام، ولم تنتظر كثيراً. كانت الصبية المتمردة على السائد، الخارجة عن المألوف، التي لا تأبه كثيراً لحسابات المرحلة، والتي تتوق إلى رؤية المشترك ما بين تجارب اليوم وتجارب الأمس.
أطلت وجوه رفيقات الأمس: نعمت ورندة وسعادة وهبه وسهام وسوسن وغادة وعهود ونجوى، وفي الوقت نفسه أطلت وجوه سجينات اليوم: آمنه منى وعطاف عليان وقاهرة السعدي وأحلام التميمي ورتاب راضي ومجد ناصر وأمل محمود وسناء شحاده وشفاء القدسي.
لم يكن ليحلو وصف وجبات الطعام المفضلة لدينا، سوى فترة الإضراب عن الطعام:
- ما أجمل البيض. أصفر وأبيض. صفار كالشمس وبياض كالثلج والمعدة خاوية. - يا سلام! تخيلوا أكلة ورق عنب وكوسا يا بنات. - أنا بدي أغمّس. أغمّس يا جماعة. تخيلوا هيك صحن حمص وصحن فول وتخيلوا تقلية صنوبر بالسمنة. - إحكي عن حالك يا عمي. إحنا راضيين بالحمص بدون تقلية. - تقلية بتذكرني بالملوخية. يا سلام! امي بتعمل الملوخية كتير زاكية، مليانة توم صحيح، وبتقليها كتير وبعدين بتطش التقلية. أنا بحبها تغميس. - والبامية مالها؟! برضه بدها تقلية، وما أزكاها بالخبز وخصوصاً تاني يوم بايته. - الأكل برقص قدامي يا جماعة. جاجة وكماجة وزيت زيتون وبصل.
ولم يكن ليحلو الغناء، سوى لدى استقبال قادمة جديدة إلى السجن، نؤكد من خلالها وحدتنا الوطنية، ونرحب بها ونمدها بأسباب الصمود.
يرتفع صوت السجانة راني:
- يعني مبسوطين بتغنوا؟! طيب بكره عليكم شغل زيادة، خليكم تنبسطوا أكتر. تغطي أصواتنا على صوتها، ونخاطب القابعة في الزنزانة: - أهلاً وسهلاً شرفونا احبابنا
ونكرر معاً بمطّة بعد كل مقطع:
أهلاً وسهلاً شرفونا احبابنا وسرعان ما تستجيب القادمة الجديدة وتنبئ بقصتها: "ع المسكوبية ع المسكوبية وصّلني بليلة وما طلّ عليّ عليّ يا كرباج لالي دايماً في بالي وتقوللي: اعترفي اعترفي وانا اقولك لأ لأ آه يا جنابي يا جنابي".
ويختلط الأمر لدى الصبية والمرأة معاً. يختلط الماضي بالحاضر، وتتساءلان: هل كانت تلك القادمة هي مريم الشخشير، ابنة نابلس، التي اعتقلت في العام 1969، أم رتاب راضي، ابنة نابلس، التي اعتقلت في العام 2004. وإذا كانت القادمة هي رتاب، فهل جاءت عبر نفق المستقبل؟! وهل هي عصام عبد الهادي من مدينة نابلس، التي تحمل على كتفيها عبء أربعة أطفال، والتي أعيدت إلى سجن نابلس المركزي بعد استجوابها في سجن المسكوبية في القدس العام 1969م، أم هي قاهرة السعدي من مخيم جنين، التي تنوء بحمل ثلاثة أطفال، والتي اعتقلت العام 2003؟! هل تكون أحلام التميمي التي عزلت شهرين في زنزانة انفرادية بعد محاكمتها، والتي تعاني من آلام حصوة في المرارة ولا توافق إدارة السجن على إجراء عملية لها؟! أم هي الطفلة مجد ناصر الخان، التي تبلغ الخامسة عشرة، والتي اعتقلت من على مقعد الدراسة العام 2004، والتي تعرضت إلى ألوان من التعذيب المهين، والتي تتلخص مطالبها بالرغبة في استكمال الدراسة والعودة إلى بيتها الدافئ؟!
تواصل من جيل إلى جيل، وحيرة ومشاعر متضاربة. في الوقت الذي أحس فيه بالرضا لتعاظم مشاركة النساء في العمل السياسي؛ أحس بالأسى للهموم المتزايدة التي تقع على كواهلهن؛ ما يجعلهن يناضلن على أكثر من جبهة، ويحملن ما تنوء به الجبال.
*****
عائشة،
من خلال ذكرياتك؛ ساهمت في إعادة صياغة التاريخ من وجهة نظر النساء، حيث التفاصيل الدقيقة كما ترينها، وحيث الجيَشان العاطفي الذي يعلي من قيمة الإنسان، وحيث مراجعة الذات والإرادة الصلبة، تتناوب التأثير على مسيرة حياتك. ربطت ما بين الذاكرة والمعرفة والعلاقات الاجتماعية؛ فكانت الذاكرة مفتاحا وسيطا بينك وبين مجتمعك.
ومن خلال اعترافك بنقاط ضعف إنسانية؛ حررت نفسك من عذاب لاحقك طويلاً؛ فتحررت روحك وصفت وانطلقت. نظرت فرأيت. تبدت نجوم الظهر، كما أردتها، لا كما أراد المحتل، وليس من خلال الصورة المألوفة المستقرة في الأذهان. تضافر الفردي والجماعي في كتابك الممتع والمؤلم في الوقت ذاته؛ ليكونا شيئاً متحداً ومنفصلاً في الوقت ذاته.