في سنة 1886 وقع أول صدام فيما بين المواطنين العرب والمستعمرين الصهاينة في منطقة الخضيرة علي خلفية طرد الفلاحين العرب من أرضهم. وفي سنة 1891 وجه أعيان القدس مذكرة للباب العالي العثماني يطلب وقف هجرة الصهاينة وشرائهم الأراضي، وحذروا من سيطرة اليهود علي التجارة المحلية. وفي سنة 1899 كتب الاب هنري لامانس في مجلة الشرق مستعرضاً المستعمرات الصهيونية وتاريخ إنشائها والجمعيات والأفراد القائمين عليها، وحذر من أطماع الصهاينة في فلسطين وشرق الأردن. وفي سنة 1905 صدر في باريس كتاب يقظة الأمة العربية لنجيب عازوري الذي تميز بنظرة استراتيجية واستشراف مستقبلي دقيق. فهو يقول: إن ظاهرتين متشابهتي الطبيعة، بيد أنهما متعارضتان، لم تجذبا انتباه أحد تتضحان في هذه الآونة في تركيا الآسيوية. أعني يقظة الأمة العربية وجهد اليهود الخفي لإعادة تكوين مملكة إسرائيل علي نطاق واسع. وبالنتيجة النهائية لهذا الصراع بين هذين الشعبين اللذين يمثلان مبدأين متعارضين يتعلق مصير العالم أجمع.

وعلي مدي السنوات التي أعقبت صدام الخضيرة توالت الصدامات الدامية، وتعددت طروحات التسوية، ولقي الصهاينة دعم ومساندة القوي العظمي، وقدم الشعب العربي في فلسطين ومحيطها العربي تضحيات مشهودة. ولم تتوقف الكتابة حول الصراع الذي فجره التواجد الصهيوني علي التراب العربي في فلسطين منذ نشر الاب لامانس مقالته قبل مئة وخمس سنوات.

ومع ذلك لم يحسم أحد الطرفين الصراع لصالحه، ولا حققت ردات الفعل العربية، الرسمية والشعبية، ما يتكافأ وعطاء الشعب وإبداعات أبطال المقاومة، ولا توصل الفكر والعمل العربي القومي العام والقطري الخاص لصياغة الاستراتيجية الشاملة والمستمرة لإدارة الصراع مع التحالف الإمبريالي ـ الصهيوني. ولقد فشلت محاولات التسوية كافة، ولم تحقق اتفاقيات السلام وعمليات التطبيع قبولاً شعبياً يعتد به في أي قطر عربي. بل ويمكن القول وبثقة تامة أن التناقضات فيما بين الشعب العربي في فلسطين وعلي مدي الساحة من المحيط إلي الخليج وبين التحالف المضاد هي اليوم أشد عمقاً وأوضح عداءً مما كانت عليه لحظة الصدام الأول في ضواحي يافا سنة 1886.

وفي تواصل عجز التحالف الاستعماري الصهيوني عن حسم الصراع لصالحه، أو فرض التسوية التي يريدها بشروطه برغم تفوقه الاستراتيجي في ميزان القدرات والأدوار. وكما في استمرار القصور العربي القومي والقطري عن صياغة الاستراتيجية الشاملة والدائمة لإدارة الصراع مع التحالف المضاد، دلالة علي حقائق الصراع وقوانينه الحاكمة، والتي بدون أخذها في الحسبان لا يمكن فهم تاريخ الصراع فهماً موضوعياً، وقراءة معطيات حاضره قراءة واقعية، وبالتالي العجز عن استشراف احتمالاته المستقبلية استشرافاً علمياً.. وفي يقيني أن في مقدمة ما يحتاجه الشعب العربي في المرحلة الراهنة من الصراع تسليط الضوء علي حقائقه وقوانينه الحاكمة.

وأولي الحقائق التي أري التذكير بها والتنبيه لخطورة التعتيم عليها أن إسرائيل ليست بالدولة الطبيعية النشأة والدور، فهي لم تقم نتيجة تطور سياسي ـ اجتماعي لشعب مقيم في أرض آبائه وأجداده، وإنما بتهجير يهود متعددي الأصول والأوطان كي يشكلوا المادة البشرية لآخر مشروعات الاستعمار الاستيطاني، التي صدرت عن المجتمعات الأوروبية. إلا أن المشروع الصهيوني متميز عن سابقاته بأنه لم ينشأ عفوياً مثلها، ولا أقامه مغامرون لم يمكنهم وضعهم الطبقي في أوطانهم الأوروبية من تحقيق طموحاتهم الذاتية فسعوا إلي تحقيقها وراء البحار. ذلك لأن المشروع الصهيوني منذ أن كان فكرة إلي أن غدا دولة إقليمية القدرات كونية الطموحات، إنما هو نتاج عمل مبرمج وجهود مكثفة وتنسيق فيما بين القوي الاستعمارية والصهيونية.

فالقوي الاستعمارية استهدفت إقامة حاجز بشري غريب يفصل فيما بين جناحي الوطن العربي، ويكبح فعالية مصر القومية ويعطل تفاعلها التاريخي مع بلاد الشام، بهدف تعميق وتأصيل واقع التخلف والتجزئة والتبعية العربي. وذلك ما التقت علي تأييده كل القوي الاستعمارية الأوروبية، التي رأت في وحدة العرب وأخذهم بأسباب الحضارة الحديثة الخطر الأعظم علي مصالحها الكونية ورفاه شعوبها وتواصل استغلالها الوطن العربي.

وكانت نخب يهود أوروبا الغربية، التي حققت اندماجاً في مجتمعاتها في بداية عصر النهضة الأوروبي، تشعر بخطر تدفق مئات الألوف من يهود روسيا وشرق ووسط أوروبا نحو الغرب، التماساً للنجاة من الاضطهاد، وسعياً لنقلة نوعية في واقعها الاجتماعي ـ الاقتصادي. ولقد رأت النخب الفكرية والمالية للبرجوازية اليهودية في أوروبا في المشروع الصهيوني ملجأ لذلك الفائض من فقراء اليهود المهدد لمصالحها المتنامية، وحلاً لما كان يسمي المسألة اليهودية في القارة الأوروبية. وذلك ما نادي به كل من هرتزل وبنسكر وكثيرون غيرهما من الصهاينة المؤسسين.

ومنذ البدايات الأولي قامت فيما بين الطرفين: الاستعماري والصهيوني علاقة عضوية، تأسست علي إدراك مشترك لحاجة كل منهما للآخر، كما أعلنا عن ذلك بصراحة ووضوح.

وتتميز العلاقة العضوية فيما بين قوي الاستغلال العالمية وبين المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني بأنها غير قاصرة علي قوة استعمارية معينة، وإنما هي عامة ووثيقة الصلة بمختلف القوي الاستعمارية. مما يجعلها دائمة ومتجددة وغير متأثرة بالمتغيرات علي صعيد قيادة القوي الاستعمارية. ذلك لأن القوة الصاعدة من بينها تجد في مصلحتها دعم ورعاية المشروع الصهيوني كي توظفه في خدمة مصالحها الإقليمية والكونية. الأمر الذي يوفر له الدعم والرعاية مع تواصل تواجد قوي الهيمنة والاستغلال علي الصعيد العالمي، وما ظل قادراً علي أداء دوره الوظيفي في خدمة هذه القوي.

والذي يذكر أنه منذ كان المشروع الصهيوني فكرة لقي تأييد ودعم النخب والإدارات الأمريكية. فالقنصل الأمريكي بالقدس واردور كرستوفر أقام سنة 1852 أول مستوطنة يهودية في فلسطين. وقد اعتبرها البداية الاولي لفلسطين الحديثة حيث ستقيم الأمة اليهودية وتزدهر ، والرئيس ويلسون أقر صيغة وعد بلفور قبل إصداره سنة 1917، فيما أجاز الكونغرس مضمون صك الانتداب قبل أن تصدره عصبة الأمم سنة 1922.

ثم إن توافق المشروع الصهيوني مع الثقافة العامة في المجتمعات الأوروبية والأمريكية جعله يحظي بما لم يحظ بمثله أي مشروع استعماري سابق من قبول شعبي واسع، وسكوت شبه عام علي تجاوزاته للقوانين والأعراف الدولية، وعدوانه علي حقوق الإنسان، واستهانته بقرارات الشرعية الدولية. وذلك علي الرغم من أنه جاء في زمن تقدم الفكر الإنساني وتراجع الدعوات العنصرية. فالذين يؤمنون بنبوءات التوراة يرون في تحققه تعجيلاً بالعودة الثانية للسيد المسيح، ومعادو السامية يجدون فيه وسيلة خلاص بلادهم من وجود اليهود المرفوض والمكروه. والمسكونون بعداء تاريخي للعروبة والإسلام ينفثون بتأييده ودعمه عن حقد دفين يكابدونه. واليساريون وأدعياء اليسار أخذوا بتجربة الكيبوتز والموشاف وبالمقولات اليسارية للقادة الصهاينة الأوائل وعضوية حزب العمل النشطة في الاشتراكية الدولية .

ولقد شكل التزوير التاريخي واللاموضوعية، والتنكر لحقوق الإنسان، واعتماد موقفين متناقضين تجاه كل من اليهود وعرب فلسطين، ومنذ البداية، القواسم المشتركة لمواقف القوي الدولية تجاه الطرفين. فوعد بلفور، وصك الانتداب الذي تضمنه، يعترفان باليهود كشعب له صلة تاريخية بفلسطين، برغم تعدد أصول اليهود، وانتسابهم لأوطان شتي، وانعدام صلة غالبيتهم الساحقة تاريخياً بفلسطين. وعلي النقيض تماماً اعتبرا عرب فلسطين مجرد طوائف غير يهودية مقيمة في فلسطين ، ودون تحديد الوضع القانوني لهذه الإقامة، هل هي طبيعية وتاريخية أم مفروضة وطارئة؟ وفيما إذا كانت دائمة ومستمرة، أم هي آنية ومؤقتة؟ كما حصرا ما لهذه الطوائف بعدم المساس بحقوقها الدينية والمدنية. وتجاهلا تماماً حقوقها السياسية. وبذلك يكون وعد بلفور وصك الانتداب قد أهدرا الانتماء القومي للشعب العربي في فلسطين، وتجاهلا امتلاكه كل مقومات الشعب المتعارف عليها في الفكر السياسي الحديث، وأنكرا عليه حقوقه السياسية، خاصة حقه في تقرير المصير، وإقامة دولته كاملة السيادة علي ترابه الوطني.

وكان الافتقار للموضوعية في وعد بلفور، وبالتبعية صك الانتداب، مقصوداً كما أقر بذلك بلفور بعد عام ونصف العام من إصدار وعده، فهو يقول: إن نقطة الضعف في موقفنا أننا بالتأكيد رفضنا في حالة فلسطين مبدأ تقرير المصير، فلو أن السكان الحاليين استشيروا لأعطوا قطعاً قراراً ضد دخول اليهود. وكان الرئيس الأمريكي ويلسون قد أوفد سنة 1919 لجنة كنج ـ كراين لتقصي الحقائق، وبعد لقاءات متعددة في كل نواحي بلاد الشام وتلقيها آلاف العرائض، وضعت تقريراً يؤكد إجماع المواطنين العرب علي الوحدة السورية ، ورفض وعد بلفور والوطن القومي اليهودي، والإصرار علي الاستقلال، وفي حال عدم موافقة مؤتمر الصلح علي ذلك وضع البلاد تحت الانتداب الأمريكي. ولكن الرئيس والكونغرس تجاهلا التقرير، وأبقي طي الكتمان لثلاث سنوات، وتشير بعض المصادر إلي أن لجنة المخابرات في الجيش الأمريكي رفعت حينها تقريراً للإدارة يفيد بأن المصلحة الأمريكية تقضي بفصل فلسطين عن محيطها العربي، ووضعها تحت الانتداب البريطاني، ودعم مشروع الوطن القومي اليهودي، والاعتراف بالدولة اليهودية فور موافقة عصبة الأمم علي إقامتها.

والصراع الذي يفجره الاستعمار الاستيطاني لم يُحلَّ يوماً بتسوية استناداً لتنازلات متبادلة، وإنما كان دائماً معركة صفرية يحسمها أحد الطرفين لصالحه. ولم يكن تفوق المستعمرين بالإمكانيات المادية والقدرات البشرية هو العامل الحاسم، وإنما هي استجابة أصحاب الأرض للتحدي وكفاءتهم في إدارة الصراع مع الغزاة. فحيث كان مستواهم الحضاري متدنياً، وقدرتهم علي التكيف مع المستجدات محدودة، نجح الغزاة في إبادة غالبيتهم.

ويذهب أكثر من مفكر عربي إلي أن الافتقار للاستراتيجية الشاملة والدائمة لإدارة الصراع مع التحالف الاستعماري ـ الصهيوني في مقدمة عوامل العجز العربي عن توظيف القدرات والإمكانيات المتاحة في تقديم الاستجابة الفاعلة، وتدني مستوي كفاءة الأداء القيادي، مما تسبب في توالي مسلسل الخيبات العربية، خاصة الفلسطينية منها، برغم عظم التضحيات الشعبية، وحين يتواصل الافتقار للاستراتيجية طوال قرن استقطب الصراع خلاله أجيالاً من مختلف ألوان الطيف السياسي والفكري والاجتماعي العربي، ففي ذلك مؤشر علي افتقار المجتمع العربي، قومياً وقطرياً، للكتلة الاجتماعية ذات المصلحة في الوحدة والتحرر والتقدم والقادرة علي الفعل. فضلاً عن دلالة ذلك علي تخلف الوعي والمعرفة وسعة وعمق المداخلات الخارجية في أدق الشؤون العربية. الأمر الذي انعكس في أن تكون القوي الأشد تأثيراً في صناعة القرارات علي مختلف الصعد إنما هي غير المتناقضة مصالحها تناقضاً عدائياً مع التحالف المضاد بحيث دأبت علي نشدان الحل في لندن أولاً ثم في واشنطن فيما بعد. متعللة في الحالين بأن اللوبي الصهيوني هو المتحكم الأول في صناعة قرارات الدولة الأعظم في زمانها، في تجاهل تام للعلاقة العضوية فيما بين الاستعمار والصهيونية وكون مشروع الاستعمار الاستيطاني في فلسطين ليس إلا أداة الاستعمار في سعيه لاستلاب الإرادة العربية. - القدس العربي -