مرت الذكرى الحادية عشرة على ابرام اتفاق اوسلو بلا جلبة او اهتمام. فالزمن العاصف بالاحداث والتحولات دفع الاتفاق وذكراه الى هامش الاهتمامات السياسية. قليلون حاولوا ذكر محاسن اوسلو، واستخلاص الدروس، كان من ابرزهم الصحافي والكاتب توفيق ابو بكر، الذي قيّم الاتفاق بأثر رجعي ووصل الى نتائج مثيرة للجدل.

انطلق الزميل ابو بكر من فلسفة اوسلو، التي تستند من وجهة نظره لشقين، الاول: الارض مقابل الامن، حيث تقدم اسرائيل الارض التي لم يستطع العرب من الماء الى الماء اعادة شبر واحد منها، مقابل قيام الطرف الفلسطيني بضبط الامن في مناطقه وعدم السماح بمهاجمة اسرائيل انطلاقاً من تلك المناطق. وحين اوفينا بدرجة او بأخرى بشروط هذا التعاقد وإن لم يكن وفاء كاملاً فقد انسحبوا من المدن الفلسطينية. ولو استمر الامر على ذلك الحال، لكنا قد استعدنا كافة اراضي الضفة باستثناء ما هو مؤجل للوضع النهائي. والشق الثاني من فلسفة اوسلو هو تقسيم الحل الى مرحلتين نظراً لاستحالة حل صراع عمره قرن دفعة واحدة وبضربة واحدة. وكان ذلك "قمة النجاح في التكتيك". فالمرحلة الانتقالية نأخذ فيها ولا نعطي، نأخذ الارض ونبني المداميك الصلبة للكيان الوطني ويعترف بنا العالم ويتعود الاسرائيليون على الحقائق الجديدة التي ستضعنا في موقع تفاوضي قوي للحل الدائم. ويرى الزميل ابو بكر اننا لم نتمكن من الالتزام بشرط هذا التعاقد (الارض مقابل الامن) بسبب التردد في التطبيق وقوة المعارضة الفلسطينية لاوسلو. والاسرائيليون الذين ساهمنا في ايصالهم للحكم انقلبوا على المرحلية .

هل حقاً هذا ما حدث بالضبط؟ وهل صحيح "انه لو لم تقع عمليات تفجير الحافلات في القدس وتل ابيب وعسقلان اوائل العام 1996 لصعد شمعون بيريس لقمة السلطة واكمل الانسحابات وأعلنا دولتنا في ايار 99 او بعد ذلك بقليل؟

عندما يفشل العرب مجتمعين في استعادة شبر واحد ويلجأون للتفاوض الثنائي فرادى فهذا يعني ان كل طرف سيخضع لشروط ميزان القوى، وسيواجه الحقيقة المرّة، وهي ان اسرائيل التي تحتكر القوة لن تتوانى عن ترجمة ميزان القوى على طاولة المفاوضات. وهذا ما كان عليه جوهر المعاهدة المصرية- الاسرائيلية، والمعاهدة الاردنية الاسرائيلية واتفاق اوسلو. الزميل ابو بكر اولاً لا يتحدث عن طبيعة ومضمون الحل السياسي الذي سيؤول اليه اتفاق اوسلو بدون احباطات المعارضين سوى اقامة الدولة.

ولم يجب على سؤال، هل تتراجع اسرائيل عن مضمون الاحتلال والتوسع الاستيطاني والسيطرة على شعب آخر؟ كان رابين قد شرح وأوضح فلسفة اوسلو بطريقة اخرى. ان اسرائيل تريد ان تتحرر من حكم الفلسطينيين، جئنا هنا ليس للغرق في الشؤون الفلسطينية. والتحرر يأتي بنقل السيطرة الامنية من داخل التجمعات السكانية الى محيطها. ورابين هو الذي عرض نقل السيطرة على قطاع غزة لمصر لكنها رفضت، وهو الذي تمنى ان يبتلع البحر غزة، يقول الكاتب الاسرائيلي (ب. ميخائيل) في "هآرتس" 30/1/2001 في معرض تقييمه لاتفاق اوسلو. تعترف اسرائيل و م.ت.ف بحق تقرير المصير لكل طرف وتوافقان على مبدأ تقسيم ارض اسرائيل الغربية بينهما وقد نجحنا نحن نجاحاً باهراً في احباط الجزء التطبيقي. كانت اسرائيل العمالية واضحة تماماً في اهدافها، وتحديداً في تفادي الخطر الديمغرافي الفلسطيني، والاحتفاظ بمضمون الاحتلال "السيطرة والتحكم" والتوسع ضم التجمعات الاستيطانية ومعظم مدينة القدس، وشطب قضية اللاجئين ومحاولة تصنيع سلطة مرتبطة بشكل او بآخر باسرائيل، وإقرار فلسطيني رسمي بإنهاء الصراع مرة واحدة والى غير رجعة وكل ذلك مقابل اقامة دولة كنتونات متصلة ببعضها البعض بجسور وانفاق تتحكم بها اسرائيل. وكان يهم حزب العمل بقيادة بيريس ورابين تمويه هذه العملية بالحديث عن دولة مستقلة وحرة. ان كل هذه الشروط المعلنة والمشروحة من قبل الاسرائيليين جاءت على خلفية العجز العربي وميزان القوى المختل بشكل ساحق، وليس في هذا خلاف، الخلاف هو حول تسويق الاوهام للمجتمع الفلسطيني. وكان التسويق اسوأ ما في تجربة اوسلو، فثمة فرق بين دخول مساومة او ابرام صفقة مع تعريف واضح لها كالقول انها صفقة بائسة لها ثمن كبير، وصفقة اضطرارية وبين بيع الاحلام واستغفال العقول، كلنا يذكر التصريحات التي هزمت الصهيونية، وانهت الاستيطان وأعادت اللاجئين!!! كلنا يذكر القراءة الفلسطينية الرسمية لاتفاق اوسلو. تلك القراءة التي لم تصمد ثلاثة اشهر قبل ان تجتاحها وقائع الاستيطان الاسرائيلي وطرقه الالتفافية.

اراد رابين وبيريس ان يدخلا تعديلاً على الاحتلال العسكري، بعد تجربة الانتفاضة التي اكدت استحالة حكم شعب اخر الى ما لا نهاية، وأن يتركوا الشعب الفلسطيني يحكم نفسه بنفسه، في اطار قبضتهم الامنية وسيطرتهم الاقتصادية، لكن هذا التعديل جوبه باعتراض ورفض ومقاومة معسكر اليمين الاسرائيلي. وانقسم المجتمع الاسرائيلي مناصفة تقريباً بين مؤيد للتعديل الذي اتى به اوسلو ومعارض له. وقد حصل اتفاق اوسلو على تأييد النصف + 1 واتهم رابين بأنه قام بشراء الصوت الترجيحي بسيارة ميتسوبيشي. وشكك معسكر اليمين بشرعية المصادقة لأن التصويت اعتمد على10 اصوات عربية). ووفقاً لهذا التشكيك فإن الاكثرية اليهودية ضد الاتفاق. وبدأ اليمين يحرض ويقاوم اتفاق اوسلو. وهو اليمين الذي يرفض الان خطة الفصل والانسحاب من غزة ويضم 70% من قاعدة الليكود اضافة لقوى اليمين القومي والديني والحركة الاستيطانية التي هي من حسن التنظيم والتمويل والقوة بحيث يصعب تجاوزها كما يقول دنيس روس. وخلافاً للاعتقاد بأن اليمين الاسرائيلي هزم الى غير رجعة، كان اليمين يستجمع قواه بفعل التحولات التي شهدها المجتمع الاسرائيلي وأهمها كما يقول باروخ كمرلينغ قضايا اسرائيلية العدد 3،2001:

- أثرت الهجرة اليهودية الكبرى على دولة اسرائيل من الناحية البنيوية .

- تبلور مجتمع المستوطنين المتدينين والقوميين في الضفة الغربية واحتلاله مكانة الكيوبوتس.

- ضعف السطوة الثقافية العلمانية السياسية الاشكنازية ونمو الهوية اليهودية والارثوذكسية القومية وبداية عملية تدين رمزية ومؤسساتية للدولة .

- إن كل هذه العوامل ادت الى تغييرات ثقافية وسياسية جوهرية لمصلحة معسكر اليمين الاسرائيلي.

لقد استند معسكر اليمين في معارضته لاوسلو الى تلك التحولات وبدأ ينقلب على الحل السياسي الذي تبناه رابين، ومن داخل هذا المعسكر انطلق باروخ غولد شتاين وارتكب مجزرة الحرم الابراهيمي، بعد ستة اشهر من التوقيع على الاتفاق، ومن داخل هذا المعسكر انطلق ايغال عامير وقتل رابين، وعندما التقى اليمين الاسرائيلي ممثلاً بنتنياهو بالمحافظين الجدد ممثلين بـ ريتشارد بيرل، اتفقوا على وثيقة الانقلاب على اوسلو. وبدأت حرب حقيقية ضد اوسلو. اذاً، الطرف الاسرائيلي هو الذي قام بالانقلاب على اوسلو من الناحية الاساسية، وقد استفاد من العمليات الاستشهادية ووظفها بشكل جيد في كسب جزء اساسي من انصار الحل الذي تقدم به رابين...يتبع