لأول مرة، منذ عقود، سيكون على الأمريكيين ان يختاروا بين مرشحين للرئاسة باهتين: بوش وكيري. سبق وكان هناك مرشحون للرئاسة من هذا النوع. رونالد ريغان - مثلا- من هذا الضَّرب: ممثل أفلام رعاة البقر ورجل إعلانات متواضع التعليم وقليل الأهلية السياسية يجد نفسه فجأة مرشح الحزب الجمهوري ثم رئيس الولايات المتحدة الأمريكية. لكن منافسه على الرئاسة، بل قل على ولاية ثانية له فيها، كان من كبار السياسيين ورجالات الدولة في امريكا: الرئيس جيمي كارتر، مع ذلك فاز الباهت على اللامع، الممثل على السياسي، ولذلك ما يفسره.

يَصْدُق هذا على بوش نفسه في صعوده الرئاسي في العام 2000. كان موصوفا بالأبله لدى سواد الامريكيين بسبب ضعف تكوينه السياسي. لكن منافسه آل غور - نائب الرئيس كلينتون كان من جهابذة السياسيين المتمرسين ممن خبروا الدولة الفيدرالية وأداروا شؤونها في افضل عهد رئاسي في تاريخ الولايات المتحدة، ومع ذلك، فاز المرشح الباهت لأسباب لا يعصى أمر تفسيرها.

أما اليوم، فلا يوجد بين المرشحين إلا الباهت، وكأن عُقماً اصاب حزبي الدولة - الجمهوري والديمقراطي- فما عاد في وسع رحمهما السياسية ان تنجب مرشحين من طراز ايزنهاور وكيندي وكارتر وكلينتون وحتى جورج بوش الأب. لكنه سيكون على الأمريكيين في النهاية ان ينتخبوا احد الباهتين ليرأس دولتهم. وهُم، في كل حال، تعودوا على انتخاب مرشحين لا يمكن احتسابهم رجال سياسة او رجال دولة في مجتمعات اخرى مثل المجتمعات الأوروبية.

لذلك تفسيره: في أوروبا لا يتصدر أمر التنافس للرئاسة، كما للانتخابات التشريعية، إلا من تقلبوا في العمل السياسي وعركتهم الحياة السياسية، وكانوا محط إجماع من أحزابهم فضلا عن شعبيتهم في اوساط الجمهور. لا يمكن لشخص غفل ان يصبح رئيسا لمجرد ان شركات فرنسية او ألمانية رشحته ليمثل مصالحها. ولا يمكن لشخص مغمور ضعيف الشخصية السياسية ان يتحول الى الرجل الاول في الدولة لمجرد ان وسائل الإعلام صَنَّعَت صورته تصنيعاً، كما لا يمكن لممثلة في الأفلام الإباحية ان تصبح في البرلمان او رئيسة حكومة محلية لمجرد ان لها شعبية في اوساط مشاهدي أفلامها، أما في الولايات المتحدة الامريكية فيجوز ذلك وخلافه.

يجوز أن يصل الى البيت الأبيض - أو الى المنافسة عليه- مرشح لا تكوين سياسياً له ولا خبرة، ولا يكاد يعرفه الناس خارج مدينته او ولايته، وإن عرفوه فليس بالضرورة كسياسي. ويجوز لشخص غُفْل ان يصبح حاكم ولاية او رئيس الدولة في الولايات المتحدة لمجرد انه من الأثرياء وأصحاب النفوذ المالي او لأنه مدعوم من شركات النفط والسلاح. ويمكن لرجل مغمور ان يتحول فجأة الى زعيم من خلال صناعة إعلامية منهجية تشتغل على رأي عام امريكي ضعيف التكوين السياسي وتكاد كثرته الكاثرة لا تعرف شيئا عما يقع خارج حدود امريكا، وأحيانا خارج حدود الولاية نفسها. كما يمكن لممثلة في أفلام البورنوغرافيا ان تترشح لمنصب حاكم ولاية في امريكا، كما ترشحت الممثلة الإباحية ماري كاري لمنصب حاكم ولاية كاليفورنيا سابقاً.

تلك مفارقة في السياسة ان نظرنا اليها بمنظار السياسة في أوروبا ومعاييرها والقواعد التي تجري بمقتضاها، لكنها في التجربة التاريخية الامريكية مما جرت عليه السنن وبات في حكم العادة الدارجة. ومع ذلك، ليس تفصيلاً ان يتقدم للمنافسة هذه المرة مرشحان يتفوقان على بعضهما في الضمور السياسي. سيقال ان قسماً من الأمريكيين يحسب بوش بطلاً قومياً خاض حربين في ولايته وكسبهما، ويَعِدُ مواطنيه بحرب لا هوادة فيها على الإرهاب من أجل حماية أمن امريكا والأمريكيين. ولكن، من ذا الذي يُقْنِع الأمريكيين بأن رئيسهم لم يخدعهم في حربه الثانية (على العراق) حين صور لهم نظام العراق كخطر على الأمن القومي الامريكي بسبب “امتلاكه” اسلحة الدمار الشامل، و”علاقته” بتنظيم “القاعدة” واكتشافهم ان لا شيء صحيحاً من ذلك؟ ومن ذا الذي يجادلهم في ان هواجسهم الأمنية المُرعبة ارتفعت اكثر مع جورج بوش وباتوا تحت رحمة الإنذارات المتقاطرة التي سرعان ما يثبتُ لهم انها قائمة على معلومات استخبارية زائفة؟ ثم من تراه يقنعهم بأن الحرب التي ذهب رئيسهم لخوضها من أجل النفط في العراق لم يكن من نتيجة لها سوى رفع اسعار محروقاتهم بعد ارتفاع سعر برميل النفط الى 50 دولاراً؟

أما جون كيري، فلا رصيد له سوى انه حارب في فيتنام، وهذا مما لا يتوقف عنده الأمريكيون كثيرا، لأنهم سبق لهم ان انتخبوا رئيسين فارّين من الخدمة في حرب فيتنام (كلينتون وبوش الابن)، وعليه، فما يهمهم من أمره سوى برنامجه. وفي هذا، لا يختلف عن بوش في القسمات الرئيسية لسياسته، وليس في جعبته - بالتالي- ما يرفع عنه صفة المرشح الباهت، وهي صفة لن تخفيها وسامة نائبه، وإن كانت مقصودة في حملته الانتخابية. - التجديد العربي -