قبل يومين، كشف المحلل العسكري الإسرائيلي، زئيف شيف، جانباً من حديث آفي ديختر، رئيس مخابراتهم، الي الرئيس محمود عباس، حول أسئلة تنتظره في واشنطن، بخصوص عدم القيام بـ إصلاح أمني حقيقي . فربما يتقاطع بعض ما يريده المحتلون، وما يريده الأمريكيون، مع بعض ـ وليس معظم ـ ما نريد، ولكن من حقنا أن نتساءل، عن المفارقة التي يمثلها تزامن الضغوط الإسرائيلية والأمريكية، لإجراء إصلاح أمني مع المشاكل التي يفتعلها البعض، في الضفة وغزة، فتؤدي الي تسخين محرك الديزل، لكي تتلحلح عجلات التغيير، في غير اتجاه مرسوم!
نكاد نجزم، بأن الشغب ليس عمالة، وليست ضبطاً للإيقاع، مع خطط العمليات الأمنية الإسرائيلية. لكنها غبية قطعاً، إذ تقع في فخ التسويف الإسرائيلي اللئيم، فتجعله سبباً للفوضي، ولتحميل المسؤولية، للقيادة السياسية، التي هي في موضع التأذي أو التأزم، من التباطؤ في الانسحابات، ومن الغموض المتعمد، في موضوع المطاردين، ومن الاستفزازات المتتالية للمشاعر الفلسطينية، من خلال الاستمرار في بناء الجدار، ومن خلال السيناريوهات التي يروونها، مترافقة مع أشرطة فيديو، حول استباحة المسجد الأقصي، وتهويد القدس، والاستيطان الذي يعزلها عن الضفة!
ہ ہ ہ
تمظهرات التمرد، وحالات الاستقواء بالسلاح، وتهيئة المسرح الفلسطيني لخرق القانون، لم تكن ستنفلت، لو لم يكن هناك من يُغذيها من وراء الكواليس، سواء ممن يظنون أنفسهم من فاقدي الأدوار، أو من ضعيفي الأدوار، أو ممن يريدون وضع العصا في الدولايب. فلو كان هناك إجماع، علي مستوي الطبقة السياسية، أو بالأحري، علي المستوي الفتحاوي، علي أن العبث بالساحة، يعادل الخيانة، وأنه ممارسة لن يقبلها أي إنسان؛ لكان مرتكبو أعمال الشغب، قد فكروا ألف مرة، قبل الإقدام علي شيء يخالف النظام، ويخالف قيم ومباديء الالتزام بأجندة العمل الوطني، والصبر عليها لكي تأخذ مداها!
والمتمظهرون بالسلاح، من مهاجمي المطاعم، ومن مطلقي الرصاص في اتجاه مقر الرئيس محمود عباس، لا يعرفون بأن مثل هذا السلوك، من شأنه أن يجعل الجميع خاسراً. وفي مقدمة هذا الجميع ـ بالطبع ـ هم أنفسهم، لأن لكل شيء نهاية. فلن يكون لنا كيان، ولا فاعلية سياسية، ولا جدوي تفاوضية، بوجود خارجين علي النظام، وبالتالي فإن ضبطهم لا بد منه. فمن لا يريد أن يعرف، أو أن يحس، من خلال وطنيته، ومن خلال فهمه لمعني النضال، الذي يستقوي باسمه علي المطاعم، فلا بد أن يتعلم غصباً عنه، لأن المسألة تتعلق بمصيرنا!
ہ ہ ہ
الإصلاح الأمني، لا يكون علي قاعدة الأحداث الفجائية، أو كرد فعل عليها. فعندما يُحال ضابط كبير، الي التقاعد، أو أن يطلب منه الإستقالة، ثم يكون إقصاؤه بطريقة لا تأخذ في الحسبان، سنوات مديدة، من نضاله والتزامه؛ تصبح الحكاية مناسبة للتندر، وللنميمة، ولحديث مسترسل، عن نهايات محزنة لمشاوير الناس، وعن التوقعات لما هو قادم. المطلوب فلسفة تنحو الي التمحيص في الكادر العسكري كله، الذي تداخلت في تاريخه، مهام العمل العسكري، بشقيه الفدائي والنظامي، مع مهام العمل الأمني، بطابعه الشرطي والقانوني. إننا بصدد خليط متداخل، من المهام ومن الأزمان، في تجارب الأشخاص. ونطمح الي خواتيم طيبة لتجارب المحاربين القُدامي، حتي وإن لم يكونوا علي درجة من المناقبية، أو من الوعي بالتبدلات الحاصلة، الي الدرجة التي تجعلهم يبادرون بالانسحاب من تلقاء أنفسهم. ربما يكون عذرهم في ذلك، أن النظام الفلسطيني، قصّر عن إنتاج قانون تقاعدي، يؤمن لهم الحياة الكريمة. وكان الشهيد أبو عمار، يتعمد إبقاء قواته وضباطه، علي رأس مهمة متغيرة، للتذكير وللإيحاء، بأن الموضوع هو موضوع الذين قاتلوا، وأنه لم يطو صفحة جيش التحرير الوطني. لكننا، في بعض الأمثلة والحالات، كمن جاء بلاعبي كرة السلة، لكي يؤدوا مباراة في كرة القدم، علماً أنه في الوضع الطبيعي، يمكن لبعض لاعبي السلة، أن يلعبوا كرة القدم. ولكن تظل مشكلة التأهيل والتدريب، والخطط، ليكون الفرز الموضوعي، لا الانفعالي: أيهما يصلح وأيهما لا يصلح؟! وأين من الموضوع، فلسفة العمل الأمني، أو مفهومه الشامل، كمستلزم لصلاحية هذا أو ذاك، للمهام الأمنية؟!
اللواء عبد الرازق المجايدة مثلاً، أحيل الي التقاعد، علي أرضية إطلاق قذائف هاون، أو علي أرضية اقتحام السجن، في سراي غزة. وعندما يكون التمحيص في أسباب من هذا النوع، بأخذ كل المعطيات في الحسبان؛ نكون بصدد ضابط برتبة لواء، لم يحظ بإخراج حسن، لإحالته الي التقاعد بكرامة. وهذا الأمر محزن ومحبط له ولنا جميعاً. فإن كان الهدف هو التخلص من هذا الجيل، لأسباب معلومة ومجهولة، فقد كان الأجدر، المصارحة، بأن هذا الجيل لم يعد مناسباً لمهام المرحلة المقبلة، فتؤخذ دُفعة (للتخرج) أو دفعتان أو ثلاث، من الضباط، الي التقاعد، في قائمة واحدة، دون الاضطرار لانتظار قصة أو حكاية، وتلبيسها لهذا الضابط أو ذاك!
فالأسباب التي استندت الي حوادث عارضة، لإقصاء اللواء المجايدة، واللواء عمر عاشور، وأخيراً الحاج اسماعيل جبر، أغفلت معطيات مهمة: العلاقات بين الأجهزة. فاعلية السيطرة والقيادة ومركزيتها. وضعية المجتمع وطبيعة التجربة التي مرت. وضعية التشكيلات المقاومة. حجم الجهد والحوار والتفاعل السياسي الذي كان، لضمان ضبط الوضع، وغير ذلك من الملابسات والاعتبارات!
ہ ہ ہ
توجهات الرئيس أبو مازن، لإجراء الإصلاح الأمني اللازم، يستحق التشجيع. وكنا نتمني أن لا تصدر أية قرارات، بخصوص الضباط فرادي. فأجهزة الأمن الفلسطينية، التي تستهلك نحو 26% من نفقات الموازنة، أي ما يزيد عن نصف مليار دولار سنوياً، لم تعد قابلة لأن تشكل ساحة للتنافس علي الأدوار، ولا مسرحاً للشخصنة وللعبث، لا سيما وأنها ـ في أقدارنا ـ باتت مرتبطة بالمسار السياسي. فلا بد من تحييد الأجهزة عن المنازعات، وعن الطموحات الشخصية للبعض، لكي تتقدم هذه الأجهزة مهنياً، خاصة عندما نكون مُقدمين علي مراحل ستصبح فيها المهام الأمنية، بالغة الحساسية، وفي حاجة لأعلي درجات الانضباط، لكي نحافظ علي الوئام بين القوي الفاعلة في الوطن، وعلي وحدة المجتمع وقواه المناضلة، وعلي زخم التجربة السياسية الفلسطينية! - (القدس العربي 4 نيسان 2005) -