كلما عبرت من بلد أوروبي إلى آخر ضربتني الكآبة لأيام. كيف
السبيل إلى الخلاص من عذاب المقارنة؟
من تذكر جبران خليل جبران ونصه الكبير: مات أهلي. لم يكن أديب المهجر الأميركي أول الذين تعذبهم الحياة الحلوة لأنها حياة الآخرين ولأنها النقيض الحقيقي الكامل لحياة ناسهم .
منذه وحتى نحن، منذ بداية القرن الماضي وحتى بداية القرن الحالي والى ما لا ندري، والحالة هي هي ... نقارن ونتعذب، نحلم ونحبط ونرفض الاستسلام، ونحار للحظات فيما إذا كنا مؤمنين أم مجانين!
منذها وحتى الآن عاشت أوروبا حربيها اللتين فرضتهما على العالم، وخرجت منهما لتعود فتبني نفسها دولة دولة، ثم تجمع دولها لتبني بالتالي وحدتها كقارة، محققة حلم كبارها بتحولها من قوى متصارعة إلى قوة واحدة كبرى تعمل على التوازن مع الولايات المتحدة الأميركية والتحالف مع آسيا كقوة موازية. منذها ونحن نعيش انقساماتنا التي فرضها علينا المستعمر، ونكرس التشريح الذي أجرته مشارط وأقلام القوى الاستعمارية على جسد امتنا، نكرسه كواقع لا عودة عنه .
يفك الأردنيون ارتباطهم بالفلسطينيين فنفرح له، ويفشل، لأسباب بالغة التعقيد حلم عودة الكويت إلى العراق، فنصفق له، وأخيرا يطرح الآن مطلب ترسيم الحدود وتبادل السفارات بين لبنان وسوريا فنوافق عليه. تفرض التأشيرات المعقدة بين كل قطر وقطر، وتقطع أوصال التبادل الاقتصادي والتجاري بين الدول العربية، فيتراجع حجم التبادل التجاري إلى ما وراء التبادل مع الدول الأخرى، بل والى ما وراء التبادل غير المعلن مع إسرائيل .
تأملات ساهمة، تغمرني والسيارة تعبر ما كان يسمى حدود بين فرنسا وبلجيكا، ومن ثم بين بلجيكا وهولندا... لا شيء إلا آثار جدار صغير ... لا شرطي، لا حواجز، لا معابر ... لا تكشيرات ولا تفتيش يستلب منك آدميتك، لا أيد تعبث بأشيائك وتجبرك على إنزال كل شيء صغير في السيارة، حتى ولو بابوج عتيق أو كيس صغير فيه قمامة ساندويش أكله ابنك .
اذكر رحلات العذاب التي عشتها عشرات المرات من عمان إلى بيروت مرورا بأربعة نقاط حدود، اثنتان مزدوجتان . اذكر تعذيب أطفالي المضطرين بسبب إجراءات العبور إلى البقاء عشر واثنتي عشرة ساعة في السيارة، اذكر لما أشعرتني تلك الإجراءات مرة وأنا اسمع خلال الانتظار نشرة أخبار تقول أن صفقة تبادل أسرى مع إسرائيل جعلت مئات العرب مقابل إسرائيلي واحد .
اذكر فرحتنا التي لم تعمر مرة بتوحيد الحدود الأردنية السورية، وفرحتنا، التي يبدو أنها ستحال إلى الإعدام، بتسهيلات العبور التي تمت بين سوريا ولبنان.
يضربني صوت جبران التويني زاعقا قبل يومين في باريس بترسيم الحدود رسميا وفرض تبادل السفارات مشددا على ان «لبنان موجود قبل سوريا» حسب جملته الغبية الفاقدة لكل معنى . لكأنه جاء هنا مطالبا أحفاد جورج بيكو بإكمال عمل جدهم. لكأن هؤلاء الأحفاد الذين يوحدون أوروبا المجزأة أمماً ولغات وشعوبا، يضعون همهم في تجزئة المجزأ من بلادنا الموحدة أمة ولغة وشعبا.
ذنبهم؟ أم ذنبنا؟ الحقائق-27/4/2005-)