يبدو مشهد إخلاء غزة من المستوطنين في الصورة الفضائية المرئية المتلفزة التي هي صورة تشكيل اتجاهات وقيم الرأي العام في عصر العولمة، وكأنه أقرب ما يكون إلى صورة" ترانسفير" قهري وإكراهي مقلوب، قام به لأول مرةِ يهود ضد يهود، وليس ضد فلسطينيين كما هو الأمر تقليدياًَ في سياسات وخطط الترانسفير قبل نشوء دولة إسرائيل وبعد قيامها، والتي تم إحياء التفكير الصهيوني بها إبان تعقد الانتفاضة الفلسطينية الثانية.
لقد كانت الكاميرا هنا سيدة اللعبة، وقد قدمت إسرائيل لها تسهيلاتٍ غير مسبوقةٍ في تاريخها، ظهر فيه مشهد إخلاء غزة من المستوطنين وكأنه مشهد ترانسفيري بامتياز مدرسي، اقتلع فيه المستوطنون "الضحايا" من "أرض أجدادهم وآبائهم" إرضاءً لصوت "السلام".
تحول إيحاءات هذه الصورة المقلوبة الجلاد إلى "ضحيةٍ" و"الغاصب" إلى "مغصوبٍ". الكاميرا نفسها ركزت على صورة الاقتلاع، وعلى مشهد تمزيق المستوطنين لثيابهم، ونواح أمهات، وتحصنات بالكنيس، واستصراخهم معجزةً من السماء تنجد أصحاب "العقيدة". المستوطنون "المقاومون" أنفسهم الذين قام مجلس يشع بتسريب رؤوسٍ لهم إلى المستوطنات لمقاومة عملية الإخلاء تلاعبوا بالتاريخ بكل فظاظة. ونقلت الكاميرا مقارنة بعضهم ما بين إخلائهم وما بين طرد اليهود من إسبانيا، وبالطبع لم يتردد بعض آخر بمقارنة ذلك مع خراب الهيكل الأول والهيكل الثاني ولاسيما هذا الأخير، والتذكير بتكرار عملية دفع يهود أوروبا الشرقية إلى المحرقة.
لقد كانت الكاميرا مناسبةً لتجديد التلاعب بالإحساس بفعالية صناعة المحرقة في استدرار العطف على المستوطنين، وفي استهداف إحلال صورة اليهودي "المقتلع" مكان صورة الفلسطيني اللاجئ والمهجر الذي تقترب نسبته في القطاع من حدود نصف السكان الفلسطينيين تقريباً، وهم اللاجئون الفلسطينيون. وهنا تنقل الكاميرا الصورة وليس الحقيقة، وتسهم في بلاغة المشهد" الترانسفيري" المقلوب. بينما تتمثل الحقيقة في أن هؤلاء المستوطنين يمثلون نمطاً كلاسيكياً من مستعمرين استيطانيين لا يرحمون، سيطروا في مستعمرة غوش قطيف وحدها على 20% من الأرض، وعلى أكثر من 20% من مصادر المياه، واضطرت الدولة إلى حماية مجموعهم البالغ في مستوطنات (اقرأ مستعمرات غزة) حوالي 1587 عائلةً بحوالي ثلاثين ألف جندي، مع أن كل عائلةٍ متوسطةٍ منهم ستحصل على ما لا يقل عن مليوني شيكل تعويضاً، وهذه سيمولها دافع الضرائب الأمريكي، وستطلب إسرائيل دفع مزيدٍ منها يصل إلى مليارين ومئتي مليون دولار. ولعلها من أكثر الصفقات إثارةً لشهية المستوطنين الذين موهوا كالعادة اغتصابهم بنبرة "العقيدة" المزعومة، بهدف تطهير الاغتصاب وإسباغ "شرعيةٍ" عقيديةٍ عليها.
الصورة جزء من بلاغة تحسينية وتزيينية وخطابية وليست جزءاً من الحقيقة إلا على سبيل التزويق والتلاعب بالتأثير. وما تفعله البلاغة هنا هو أنها تحل الصورة مكان الحقيقة بشكلٍ تضليليٍ. فلم يكن تمرد المستوطنين قط بالحجم الذي أوحت به بلاغة الصورة الفضائية الفورية المتلفزة، والجنود لم يحملوا الحرم الذي أصدره بعض الحاخامات المتطرفين على محمل الجد، فلم تحدث حركة انشقاق أو تمرد بينهم، والمخططون الإسرائيليون يعتقدون أن ما حدث من اعتراضات هو أقل بكثيرٍ مما تم توقعه. لكن كان لابد من توظيف الكاميرا ليس من أجل المستوطنين بل من أجل شارون الذي يتحرك باسم المصلحة القومية لإسرائيل، ويسعى إلى أن يكون هذا الانسحاب هو الأخير.
لقد استثمرت حكومة إسرائيل وشارون خصوصاً هذه اللعبة بشكلٍ فعالٍ، ومن وصف المستوطنين في سياق توظيفات هذه اللعبة بـ "عصاباتٍ هوجاء" حركها "منافقون" لم يكن سوى شارون نفسه الأب الأكبر للاستيطان، والذي كان يعني بـ "المنافقين" جماعة مجلس يشع. هذا الوصف ينطبق حرفياً على واقع وجود المستوطنين في غزة، إنه وجود المستعمرين كما هو الأصل في كلمة المستوطنين. الآباء الكبار للصهيونية اليمينية التصحيحية، أي صهيونية مايسمى بـ "أرض إسرائيل" الكاملة، والذين ينتمي شارون في الأصل إلى سلالتهم كانوا يستخدمون كلمة المستعمر والمستعمرات من دون أي تدليس وليس كلمة المستوطنين والمستوطنات. ومايسكت عنه خطاب شارون هنا هو أن المستوطنين لم يغدوا بين يوم وليلة" عصاباتٍ هوجاء" بل كانوا دوماً كذلك.
يستثمر شارون هذا القلب الوظيفي المدروس بعنايةٍ، للجلاد إلى ضحية تستحق العطف، والذي تم فتح مشهده "الترانسفيري" المموه أمام عدسات الكاميرا بصورةٍ طليقةٍ غير مسبوقةٍ، في استثمار قلب صورته من رجل حربي فتاكٍ كاد أن يقدم إلى المحكمة الدولية لجرائم الحرب إلى صورة الرجل الذي اتخذ قراراتٍ "مؤلمةً" و"تاريخيةً" من أجل السلام. مانقلته الكاميرا يتكامل مع توظيف شارون لقراراته "المؤلمة" التي لم يتأخر قط ولن يتأخر عن بيعها والبحث عن مقابلٍ ابتزازيٍ لها، فهي التتمة المنطقية لربح لعبة الصورة. - (التجديد العربي 25 آب 2005) -