لماذا يبدو المجتمع “الإسرائيلي” وكأنه قبيلة من البدو الرحل تستعد دوماً للرحيل من مكان إلى آخر؟

السؤال ليس مجازياً، كما قد يتبادر إلى الأذهان. فالحياة السياسية في الدولة العبرية تحمل بالفعل كل قسمات مجتمع البدو الرحل: من السهولة المثيرة في تشكيل وحل التحالفات السياسية، إلى السهولة الأكثر إثارة في تغيير وجهة سير الرأي العام “الإسرائيلي” بين ليلة وضحاها. ومن القفز بخفة الغزلان من مسار السلام إلى مسارات الحرب، إلى التنقل بخفة اكبر من أحضان زعيم إلى آخر. قارنوا ما يحدث الآن: يصاب ارييل شارون بجلطة دماغية خفيفة، فتسارع “هآرتس” إلى الاستنتاج بأنه “إذا ما ترك رئيس الوزراء السياسة، سواء برغبته أم لا، فإن النظام السياسي “الإسرائيلي” برمته سيقذف به إلى أشداق دوامة مجنونة تتطاير فيها كل الأوراق”.

ما هذا الذي نسمع: رحيل سياسي واحد يؤدي إلى زوابع مجنونة؟ أليس هذا التطور قصراً على ديكتاتوريات الفرد الواحد وأنظمة الفرعون الواحد؟ أين الفضاءات الديمقراطية التي لطالما تغنى بها “الإسرائيليون”، والتي يفترض ان تضع المؤسسة قبل الفرد، والجماعة قبل المؤسسة، والتاريخ قبل الجماعة؟

لماذا في “إسرائيل” وحدها، من بين كل الدول الديمقراطية في العالم، يمكن لفرد كشارون أن يقرر تدمير حزب تاريخي كالليكود، فينجح ليس فقط في التدمير، بل أيضاً في بناء حزب جديد (كاديما) تؤكد كل الاستطلاعات بأنه سيكتسح أقلام الاقتراع؟

في الأمر سر حقاً. ومغاليق هذا السر لا تكمن في الديمقراطية، بل في أمرين اثنين متلازمين:

الاول، أن يهود “إسرائيل” لا يشعرون بالاستقرار في كيانهم كونه تأسس على قاعدة خطيئة أخلاقية ولاإنسانية، فتترجم مشاعر هذا اللاإستقرار نفسها تقلبات دائمة في توجهاتهم السياسية. (وهذا، كما هو معروف، إحدى سمات المجتمع البدوي).

والثاني، ان يهود “إسرائيل”، وبرغم تغربنهم وإدعائهم تشرّب روح عصر الانوار الليبرالي الديمقراطي الاوروبي، إلا انهم ما زالوا في أعماقهم رجعيين خلاصيين، يبحثون بشكل دائب عن “ملك “إسرائيل” المخلّص”. (ليس مصادفة ان يطلق اليهود على كل زعيم “إسرائيلي” صاعد اسم “ملك “إسرائيل”).

إيسرائيل شاحاك والبروفسور نورتون ميزفينسكي، يفسران في كتابهما “الأصولية اليهودية في “إسرائيل”” هذه الظاهرة بالقول إن “قيم الدين اليهودي، على الأقل في صيغته الأورثوذكسية والقومية الصهيونية السائدة في “إسرائيل”، لا يمكنها التعايش مع الديمقراطية. والحال أنه ليست هناك عوامل أخرى (كالقومية أو الامن أو القيم الاجتماعية والاقتصادية) يمكنها أن توازي عامل الدين من حيث التأثير في مواقف اليهود “الإسرائيليين” في كل المجالات”. والدين بالنسبة لليهود يعني أمراً واحداً: انتظار الفرد “المخلّص” والرهان على التوجهات اللاهوتية الخلاصية.

رب قائل هنا: أليس في هذه المقاربة شيء من المبالغة؟ ألم تثبت الديمقراطية “الإسرائيلية” مراراً وتكراراً قدرتها على التأقلم واستيعاب التناقضات؟ إن من أولى أولويات الديمقراطية أن تكون ديمومة العقلانية لا دوامات الجنون هي ألف باء الحياة السياسية، إلا بالطبع إذا ما كان يحق لشعب الله المختار أن يكون استبدادياً فيسمي ذلك ديمقراطية، وان يكون بدوياً مترحلاً ويسمي ذلك تمديناً واستقراراً! - (الخليج الاماراتية 21 كانون اول 2005) -