تباينت وجهات النظر والآراء حول الأسباب التي أدت إلى تراجع شعبية حركة التحرير الوطني الفلسطيني- فتح، فمن قائل: إن السبب هو في الفساد الإداري والمالي الذي ارتكبه بعض المتنفذين في السلطة، وذاع صيته بين أبناء عامة الشعب، ووقع تحت مطرقته وزراء وغيرهم. والبعض يرى أن انحراف بعضهم عن الخط النضالي، الذي رسمته قيادات قضت نحبها قبيل مدريد، وسيرهم غير المجدي، في طريق ما يسمى بالسلام. ويرى آخرون أن السبب هو تعارض الفكر، والسعي الحثيث لإقامة الدولة العلمانية في بلدنا فلسطين، مع فكر الشعب وأيدلوجيته التي تنبع من عقيدته؛ إذ أصبح لديه ميل قوي وواضح تجاه التمسك بها.
ولا ننسى وجهة النظر التي تقول: إن حركة فيها قيادات عريقة ومخضرمة، ثم وقع بعض قيادتها أسرى هنا أو هناك؛ فشرعوا يهاجمون هذه القيادة ويجترئون عليها وعلى مكانتها، ليس تحت بند الديمقراطية والحرية، لأن هذا البعض مشهور بالقوة والحزم معهم، بل لأن ذلك أصبح مطلبا خارجيا، ثم اتهام هذه القيادة في قدراتها القيادية...قالوا: إن هذه الحركة قد أصبحت مهددة في وجودها؛ لأن "تهاوي الرمز في عيون أبنا الحزب يعدّ تهاويا للحزب نفسه".
هذه الكبوة لم تكن بالتي يمكن النهوض منها بيسر ودون تضحيات حتى ولو مسّت الفكرة والأيدلوجيا؛ لأن النهوض الذي قد يكلف المال والجهد والرجال من أبناء أي حركة يجب أن يعيش- على الأقل- لمرحلة مساوية للمرحلة التي سبقت الكبوة، إن لم تكن أطول، وهذا ما يفسر ردة الفعل التي شهدناها إثر نتائج المرحلة الثانية من الانتخابات البلدية!
يقال ذلك، في الوقت الذي يقرأ البعض محاولة إجراء تغييرات، ظهرت على كل شيء، مثل:
- تغييرات في الوجوه و الرجال، تنجح الأمور مع بعضهم ولا تنجح مع أكثرهم، والذي تنجح معه لا يترك مكانه إلا بثمن معقول، أو يظل عصا في يد من أراد أن يتكئ عليه أو يشير بها إلى الآخرين.
- وتغيير في الخطاب الإعلامي؛ فلا ضير من الاعتراف بخطأ –هنا- أو تبرير –هناك- ولا عيب في طرح إمكانية الالتقاء، مع من عذبوه بالأمس -لثنيه عن فكره أو سياسته- في منتصف الطريق، وإمكانية التنسيق، بل والبناء المشترك معه!!
ولا ضير بأن يظهر البعض بثوب الضحية التي تريد المعارضة طمسها وإضاعة تاريخها، بل الادعاء بأنها تتنكر لتاريخ الشعب؛ ممثلا ذلك في عَلَمه وشعاره الخالد بألوانه الزاهية الدالة على هذا التاريخ العربي الأصيل منذ الثورة العربية الكبرى! يقول ذلك لاستجلاب الناس لصالحه واستعدائهم للآخرين.
- وتغيير في الشكل-شكل الأجهزة(عددها،وحجمها،ومسؤولياتها) والإعلان عن إلغاء فرقة كذا وفرقة كذا، لتهدئة المشاعر المستثارة من تصرفاتهم.
كل هذا وغيره من أطروحات التغيير كان لا بد منها؛ لأن الشعب لم يترك الفرصة- بوعيه- لخيار آخر؛ فشرعوا بتسويق النهوض الجديد، فيا ترى كيف كان؟ وما مدى نجاح الحركة في الوصول إلى بر الأمان؟
أقول: إن من المظاهر التي واكبت هذا النهوض:
* مواكبة اتجاه الشعب، المنحاز إلى عقيدته، ومن ثم التنازل عن الدعوة العلمانية كدعوة فكرية وكناظم للبناء التنظيمي، بل ولقد تم الحرص على جعل التدين سمة من سمات أبناء الحركة، وظهر ذلك من خلال توجيه العناصر، أو تركها تتوجه، إلى المساجد، والتخلق بأخلاق أبنائها.
* كما أصبح من الملاحظ التوجه إلى تزيين الرايات الصفراء بكلمة التوحيد، وإن كان ذلك بطيئاً، فبعض الرايات لا زال ينتظر أن تذيبه الشمس فيستبدل برايات جديدة (مؤسلمة)، ويواكب ذلك اتهام، وعلى أعلى المستويات، بتخلي "حماس" عن العَلَم الفلسطيني ورمزيته.
* أشرطة يظهر فيها الشهداء (المنتمون لفتح) وهم يوصون من بعدهم، هذه الأشرطة والاسطوانات (الليزرية) وضع على بعضها شعار مكتوب بالخط الأبيض داخل(بلوك)أحمر عريض في الجهة اليمنى من الشاشة "الإسلام هو الحل".
لقد حق لنا التكبير في تلك اللحظة، فهذه شهادة انتظرها الكثير من الناس،الذين تبعوا الفكرة التي روّج لها العلمانيون ،ليكونوا جريئين-بعد اليوم- في اتّباع أصحاب الفكرة التي يدل عليها هذا الشعار العظيم "الإسلام هو الحل"!!!.
* الهتافات : "الله غايتنا والقرآن دستورنا والرسول زعيمنا والجهاد سبيلنا والموت في سبيل الله أسمى أمانينا" صحيح أنها ليست حكرا على أحد، ولكنها شعارات دالة على فكر ذلك الأحد، فإن رغب البعض أن يتخذها شعارات له فإنه –حتما- يروّج لفكر صاحبها، بل يقول للناس:إن دلالات هذه الشعارات وما وراء هذه الألفاظ فكر، هو بمنزلة مطلب المرحلة الحالية- على الأقل- فاتّبعوه تفلحوا، لأننا في الطريق إليه!!!
ويزحف إلى ورقتي السؤال الهام: ألم يتنبه أصحاب هذا النهوض إلى ما يفعلونه؟!
لا أعتقد-على الأقل من وجهة نظري- ذلك لأن مرارة ما يسيرون إليه بدأت تقترب من نهايات ألسنتهم ليتذوقوها، ولكن- في المقابل- لا أظن خياراً آخر أمامهم.
إذاً، فالهدف مما تقدم-في مظاهر النهوض- ليس ساذجا، والذي أعتقده سببا هاما هو إزالة الفارق الفكري والأيدلوجي بين حماس وفتح، إذاً، هي رسالة مفادها أنه لا أفضلية لحماس على أحد في الفكر، ويكون الخطاب موجهاً نحو ما يمكن أن يحققه ذاك الاتجاه وهذه الحركة من مكاسب للشعب على الأرض.
وبعد، فإن السلطة وحزبها لم يجدا معيناً لهما في تثبيت هذه النقطة لصالحهما في ميدان التنافس على مصلحة الشعب الفلسطيني وتقديم خدمات له تحفظ الرصيد القديم، أو تجلب الحظ للأيام القادمة. ولأن الناس لا يعنيها فقط هذا الجانب، بل إنها تريد برنامجاً سياسيا واضحا، فإنه يظل يلوح في الأفق مطلب يجب أن يحسب له حساب، متى سنتخلص من تنازلات استحقاق المعاهدات؟ وهل تضمن السلطة وحزبها خلاصاً من ذلك؟ وإلا فهذه الحال صعبة أكثر مما يتوقع البعض.
وما أذكره-كجانب آخر هام- أن كثيراً من الناس كانوا يكتبون عن فساد بعض المتنفذين، وذلك قبل الانتخابات، وقُبيلها، ولكن لم ينته هؤلاء عن فسادهم، بل إن بعضهم ضبط بالرشوة والمحسوبية بعد الحرب الإعلامية عليه وعلى غيره. فالأمر-إذاً- صعب أن يتم التخلص منه بسهولة، ولن تنجح-في نظري- مياه البحر في غسل ذلك إلا بفتح المجال أمام الشعب ليختار ممثليه بكل نزاهة ، وذلك أفضل الطرق للنهوض من الكبوة الذاتية للوصول إلى الإصلاح العام الذي يساعد -يوما- على النهوض بطعم أقل مرارة.
الحقائق (18/7/2005).