قبل أقل من عام طرح في ندوة ثقافية نقد لموات أو ضعف الحياة الثقافية والفنية في فلسطين. ورفض التعلل بالانتفاضة كسبب للتراجع والهمود الثقافي، انطلاقاً من المفهوم القائل إن الفنون على اختلاف انواعها هي أشكال من المقاومة، أو انها تفّعل المقاومة وتجعلها اكثر جدوى وفعالية. وبناء عليه طرحت توصيات تدعو الى فتح دور السينما والمسرح في كل المحافظات، وتدريب فرقة قومية للفنون الشعبية، وبناء معاهد للموسيقى والرسم والرقص وإعطاء اولوية لتأسيس بنية تحتية ثقافية تكون قادرة على تنمية الثقافة في فلسطين. وذلك انطلاقاً من واجب الدولة المعاصرة في انعاش وتنمية الحياة الثقافية والفنية جنباً الى جنب مع انعاش وتطوير الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وأخذاً بمقولة انه كلما زادت درجة نمو المجتمع كلما زادت حاجة أفراده للثقافة والمعرفة. نعم، كان المجتمع الفلسطيني وما زال بحاجة الى من يقوم بإشباع حاجته الروحية الظاهرة والكامنة والارتفاع بذوقه الجمالي في مجالات الادب والفن والموسيقى والتصوير، وإلى من يوفر المقومات الضرورية لهذه العملية ولكل ابداع وموهبة، المواطن كان وما زال بحاجة للاستمتاع بمسرحية جيدة وفيلم ممتاز ولوحة خلابة وكتاب شيق من اجل ان يطور صموده ومقاومته وحبه للمكان.
قبل اسبوعين جاءت الاحداث في قلقيلية ونابلس لتحول التوصيات السابقة الى ما يشبه احلام اليقظة. فقد منع مجلس بلدي مدينة قلقيلية حفلاً فنياً في المدينة بصيغة تحريم للفنون وكان المجلس الموقر في المدينة قد منع اذاعة الاغاني في متنزه حديقة الحيوانات وأزال نوافير المياه لأنها بشكل تماثيل، وأزال معهما الفرح والبسمة من الوجوه. وأطلقت مجموعات مسلحة النار والقذائف لفض احتفال غنائي إقامه الفنان عمار حسن في جامعة النجاح بمدينة نابلس. وكان عمار حسن يغني "زهرة المدائن" ومجموعة من الأغاني الوطنية. وقد جرى تفريق المحتشدين الخمسة آلاف بصورة مفزعة وأصدر المفتي عكرمة صبري فتوى تؤيد ما ذهب اليه مجلس بلدية قلقيلية. وقد اثارت هذه المواقف والممارسات المرعبة قلقاً كبيراً في أوساط النخب الثقافية وقطاعات واسعة من المواطنين. ودفعت الشاعر الكبير محمود درويش للتعبير عن خشيته من أن الوضع الفلسطيني مقدم على دخول تجربة شبيهة بتجربة طالبان في افغانستان. تلك التجربة التي بدأت بتحريم الفنون على اختلاف انواعها وانتهت بتحريم ذهاب البنات والنساء الى المدارس والجامعات والى نسف المعلم التاريخي الحضاري لافغانستان (تماثيل بوذا).
ما حدث عندنا لم يكن نشازاً، بل هو ترجمة للسياسة التي تطلقها بعض المدارس الفكرية المتعصبة منذ زمن طويل. وكانت تمارس الدعاية على أمل الانتقال الى مرحلة التطبيق وفرض مواقفها ورؤيتها على عموم المجتمع. فقد سبق وأن منعت شركة الاتصالات الفلسطينية بالتهديد والوعيد من اقامة مركز اتصالات مجاني لدعم الفنان عمار حسن اثناء مسابقات سوبر ستار العرب، ونجحت في الغاء المركز وسط صمت مطبق، وساهمت بشكل ملموس في عدم فوزه بالمرتبة الاولى، وأصدر بعض شيوخ تلك المدارس فتاوى تحرم انتخاب العلمانيين عشية انتخابات الرئاسة الفلسطينية. ويتم توزيع كاسيت (الحجاب أو النار) على طالبات جامعة بيرزيت غير المحجبات. وهناك فتاوى تنطلق من بعض أئمة المساجد تعتبر عيد الام وعيد المرأة بدعة من الكفار لا يجوز الاخذ بها، وكان سماحة المفتي قد انضم الى المدارس المحافظة التي كفّرت مارسيل خليفة وأقامت عليه دعوة بسبب غنائه قصيدة درويش "أنا يوسف يا أبي"، وتنصلت القوى الاسلامية من الرموز الوطنية كالعلم والنشيد والكوفية والازياء الفلاحية الشعبية المطرزة. والمشكلة هنا لا تقتصر على اعتناق مفاهيم والترويج لها بل ان المشكلة تكمن في محاولة فرض المفاهيم على الآخرين وتكفير كل من يعتنق مفاهيم اخرى سواء أكانت دينية أم علمانية. وهذا فكر اقصائي يقود الى نتائج وخيمة ومدمرة، ليس اقلها تفكيك وحدة المجتمع وتهديد الوحدة الوطنية ودفع كل المتضررين من هذه السياسة الى الانزواء وربما الى الرحيل والهجرة. ولنلاحظ ان الساخطين على احداث نابلس وقلقيلية يخشون البوح بآرائهم خشية من رد الفعل. ولم يكن من باب الصدفة ان منظمات المجتمع المدني في نابلس بما في ذلك القوى السياسية التزمت الصمت ولم تحدد موقفاً علنياً رغم استيائها الشديد من تلك الاحداث. ومن لا يصدق ان وضعنا اصبح خطراً عليه العودة لتجربة الجزائر المدمرة. فقد اقدمت (فرق المطاوعة) على تحطيم كل الرموز الثقافية والفنية وكل التماثيل والقطع الفنية النادرة، وتم قتل المثقفين والمبدعين والاعلاميين والكتاب وراقصي الباليه والفنون الشعبية. ومنعت الموسيقى والمسرح والرسم وصالات عرض الفنون التشكيلية وأغلقت دور السينما والمطاعم والمسابح والمقاهي. وكانت نتيجة هذه الفظاعات الدخول في عهود الظلام والتخلف التي لا يوجد داخلها غير سفك الدماء لمجرد الشبهة. أما بعد، هل نسير على هدى تجربة الجزائر وأفغانستان ومجموعات التكفير والهجرة في مصر، والقوى الطائفية في لبنان. لا يوجد ما يحول دون ذلك، ودون الغرق في الظلام الا برفع وتيرة الحوار داخل المجتمع الفلسطيني الذي عاش حالة من التعددية والانفتاح واحترام الرأي الآخر، والذي لم يمارس التعصب والانغلاق في مختلف المراحل السابقة.
لقد نص الاعلان العالمي لحقوق الانسان العام 6491على "أن للانسان الحق في ان يشترك دون قيد او شرط في الحياة الثقافية للمجتمع وأن يستمتع بالفنون وأن يكون له نصيب في التقدم العلمي وما يؤتيه من ثمار".
لقد تركت البشرية مؤلفات عملاقة في الموسيقى والرسم والأدب وسائر الفنون وكانت بمثابة تمرد وعصيان واحتجاج على المظالم وانتصار للقيم الانسانية، وأضافت في الوقت عينه الى الذوق العام عنصراً رائداً في الاحساس بالجمال. فكان لنشيد سيد درويش "بلادي بلادي" دور السحر في توحيد المجتمع المصري في مواجهة العدوان.
وشكلت منحوتة "مصرع الطاغية اليوناني" وما زالت تشكل عبرة للحكام حتى لا يتمادوا بالصلف والاستبداد. وكانت لوحة "الغيرنيكا" لبيكاسو صرخة احتجاج على البطش والهمجية النازية في اسبانيا.
ونجح نشيد "الله اكبر فوق كيد المعتدي" لمحمود الشريف في توحيد مصر والامة العربية وشحنها بالحماسة والشجاعة في مواجهة العدوان 65.
وكذلك الامر بالنسبة لتأثير "سيمفونية ستالينغراد" التي شحذت شعوب الاتحاد السوفياتي بروح المقاومة وساهمت في وقف الزحف النازي. وغير ذلك كثير ما يؤكد ان الانسان تاريخ متصل والحضارة الانسانية ليست ملكاً لاحد دون آخر، غير ان المشكلة تكمن في انعزال المدارس الفكرية عن حضارات الشعوب، وعن الجوهر الانساني للحضارة الاسلامية من خلال العودة الى النماذج الماضية من اجل حل مشكلات الحاضر ومن خلال ادارة الظهر للتطور والتغير النوعي الذي طرأ على حياة الانسان طوال قرون عديدة. إن تجميد الزمان عند نقطة واحدة تدور حولها كل تصوراتنا للحاضر والمستقبل يتناقض تماماً مع كوننا جزءاً لا يتجزأ من بيئة عالمية كبرى.