من منظور استقرار النظام السياسي الفلسطيني مابعد انتخابات المجلس التشريعي، ولغرض الحفاظ على تعددية التمثيل داخله وتوازن القرار فيه، "فتح" بحاجة الى انقاذ، حتى يكون لها دور فعال في المرحلة المقبلة.

ذلك ليس من منظور فئوي أو حزبي أو حركي، وإنما من منظور ما هو معروف عن تحول الأنظمة السياسية من أنظمة سلطوية الى نظم أكثر ديمقراطية. العنصر الأساسي هنا يتعلق بتعدد مراكز القوى في النظام السياسي، وانعكاس ذلك في أي مجلس نيابي، ما يوفّر توازناً في القرار ومشاركة أوسع فيه وشرعية أكبر وإقصائية أقل. إن هيمنة الحزب الواحد هي الباب الواسع للنظام السلطوي، والانتقال السريع من هيمنة "فتح" وتداخلها مع السلطة الفلسطينية، الى تفتت "فتح" سيحدث هزة عميقة في النظام السياسي الفلسطيني ككل.

ومن منظور استقرار النظام السياسي الفلسطيني قيد التغيير، من المفضل أن يتشكل المجلس التشريعي المقبل من ثلاثة محاور على الأقل: "فتح" وحماس وممثلي التيار الثالث. هذا إضافة الى مستقلين وآخرين سيأتون الى المجلس من خلال الدوائر الـ61 سيئة الذكر، التي أبقاها أعضاء المجلس التشريعي كما هي. وفي هذا مؤشر على ان أعضاء المجلس المحسوبين على "فتح" غير قلقين على مستقبل الحركة، ذلك ان حظوظ "فتح" في التمثيل النسبي والقوائم أكبر منه في الدوائر، لأن المنافسة في الدوائر تسمح بتشرذم أكبر داخل الحركة أمام منافسة المستقلين وحماس وممثلي العشائر، كما هو واضح وبيّن. صحيح انه لا توجد ضمانة لعدم وجود أكثر من قائمة لـ"فتح" في التمثيل النسبي للدائرة الواحدة لغزة والضفة، ولكن المنافسة ستكون أقل وتتقلص الى حدها الأدنى.

إن مآل قانون الانتخابات بعد وفاة الرئيس عرفات مؤشر واضح على ان مصلحة الحركة ككل لا يمثلها طرف واحد مركزي قادر على اتخاذ القرار. في الواقع يجب القول إنه لا يوجد حالياً من ناحية بنيوية، حزب اسمه "فتح". يوجد الاسم والتاريخ، ولا توجد البنية. إن نتائج اجتماع اللجنة المركزية الأخير في عمان، ربما كانت متوقعة لمتابعي قضايا الحركة الداخلية، ولكن رغماً عن ذلك، ستشكل مرحلة فاصلة لجمهور "فتح" العام، لأنها لم تفض الى نتائج تعالج الأوضاع الداخلية. إن خيبة أمل الكثيرين من هذا الاجتماع ستكون لها نتائج غير حميدة، ليس فقط داخل الحركة، وإنما ستطال تبعاتها النظام السياسي الفلسطيني والعلاقات الداخلية فيه.

إن المعضلة الأساسية التي تواجه "فتح" الآن، تكمن في انها بحاجة لإتمام عمليتين يتعذر إتمامهما في آن واحد أو فترة قصيرة: إعادة بناء الحركة، والاتفاق على مرشحين لها للانتخابات النيابية، دون تنافس بين المرشحين أو تعدد في القوائم.

من ناحية مجردة أو نظرية، الآلية معروفة، أي الانتخابات الداخلية أو التمهيدية لاختيار المرشحين، أو آليات أخرى لها شرعية داخلية. غير ان هذه الآليات لن تجدي نفعاً في وضع الحركة الحالي، أو في أي فترة سابقة للانتخابات النيابية. وفي هذا ما يفسر تأجيل مؤتمر الحركة لأجل غير مسمى، وما يفسر جزئياً على الأقل، تأجيل الانتخابات حتى لو وجدت أسباب خارجية لذلك من منظور القائمين على الأمور.

إن مطلب إجراء انتخابات داخلية تمهيدية متعذر لأسباب عدة، كما يعرف الجميع، أولها تحديد العضوية. ففي حركة غير ممأسسة مثل "فتح"، لا أحد يحمل بطاقة عضوية فيها، سيشكل "فتح" باب العضوية لمن يرغب بالانتساب وصفة للاختراق من قبل مساندي تيارات أخرى للتأثير على نتائج الانتخابات الداخلية. ومن غير المستبعد أن تصل العضوية بهذه الآلية الى ما يزيد على نصف الناخبين أو أكثر!

إضافة، لن يقبل الكثيرون داخل الحركة، أن يتساوى في الاقتراع، خاصة في الترشح، المنتسب الجديد مع المخضرم، بوجود إشكالية إضافية تتعلق بمعايير الأقدمية، لتكرر "الدخول" و"الخروج" من الحركة، عبر السنوات لكثيرين، دون وجود معايير واضحة لذلك، يمكن من خلالها احتساب سنوات العضوية.

إذاً، هل من حل؟ في الوضع الحالي للحركة، الحل الوحيد الممكن هو تشكيل قوائم مرشحين من طرف أو أطراف داخل "فتح" لها ثقل معنوي كاف يقلل ويخفف من إمكانية المنافسة الداخلية خلال الانتخابات. ومن الواضح انه بعد وفاة الرئيس عرفات، لا يوجد طرف واحد يمكنه أن يقوم بهذا الدور، كما كان في إمكان الرئيس الراحل أن يفعل. ومن الجلي أيضاً، ان اطر "فتح" الحالية غير مرشحة لملء هذا الفراغ، بما في ذلك اللجنة المركزية أو المجلس الثوري بعضويتها الحالية، نظراً لفقدانها التقبل الداخلي والثقل المعنوي الضروري لهذا الدور.

لذا، إذا ما كان هناك أمل في دور لعنصر موحد ما أمكن ذلك، فإنه يكمن في دور يمكن أن يقوم به النائب الأسير مروان البرغوثي مع مجموعة أخرى من الأسرى ذوي الخلفية المعتمدة داخل الحركة، وربما إضافة الى آخرين.

قد توجد صعوبات عملية أمام اقتراح مثل هذا، وقد لا يحرز إجماعاً داخل الحركة، ولكن في غياب حل مثالي سريع، يبدو انه أفضل من غيره، ليس من منظور محور أو آخر داخل الحركة، وإنما من منظور إمكانية إعادة القدر الأكبر الممكن من الوحدة الداخلية خلال الانتخابات. غير ان هذا الاقتراح أيضاً، مرهون بتوفر مقومات وشروط محددة: الأول، الثقل المعنوي للجنة اختيار مرشحي الحركة للمجلس النيابي، وهو متوفر هنا، حتى وإن لم يحظ باجماع. الثاني: أن تكون قائمة المرشحين موزونة ومدروسة من حيث تمثيل مختلف المحاور داخل "فتح"، ما أمكن ذلك. الثالث: أن يكون المرشحون ممن لهم سمعة حسنة، وأن تضم مستقلين لهم رصيد مجتمعي.

إن آلية مثل هذه، حتى لو أخذت طابع "الحركة التصحيحية"، قد تكون أفضل من غيرها في الوضع الراهن للحركة، الذي كما قال النائب قدورة فارس مؤخراً يعرفه القاصي قبل الداني.

إن نقطة الانطلاق يجب أن تبدأ بالإقرار انه لا توجد حلول مثالية، وإنما حلول واقعية وممكنة، حتى لو أدت الى بعض التجاذبات داخل الحركة، ولكنها تبقى مرشحة لإحراز نتائج أفضل من غيرها من منظور الوحدة الداخلية النسبية، ومن منظور أية انتخابات نيابية مقبلة.

ومن الضروري الإدراك ان إعادة بناء "فتح" ومأسستها واعتماد الانتخابات الداخلية فيها كأساس لإعادة تشكيل مجالسها وهيئاتها ولجانها، لن يتم دون تفتت، إلاّ بعد الانتخابات النيابية والدور التأسيسي الجديد لمرشحي "فتح" الفائزين، بعد حصولهم على الشرعية الانتخابية من قبل الجمهور. بعد ذلك، سيكون في إمكان هؤلاء القيام بالدور الإصلاحي المطلوب والمأسسة، وفتح باب العضوية، كلجنة مؤقتة لها رصيد انتخابي عام.

مرة أخرى، يجب الإقرار انه لا توجد حلول مثالية. وإذا ظنّ البعض ان الآلية المقترحة هنا تميل الى الجذرية، أقترح أن يجري التفكير ملياً في الخيارات الأخرى، لأنها ستبان بعد الفحص انها لا تقل جذرية من ناحية تبعاتها داخل "فتح"، أو تبعاتها للوضع السياسي الحالي الفلسطيني. - (الأيام 20 تموز 2005) -