مركزية "فتح", حتى لا نضع كل اللوم فقط على كاهل محمود عباس, هي المسؤولة عن الفلتان الأمني الذي تشهده الأراضي الفلسطينية المحتلة. والمواجهات المسلحة التي وقعت بين مقاتلي حركتي "فتح" و"حماس" ليست سوى جزء من هذه الظاهرة.
في الوقت الذي تندلع فيه اشتباكات بين مقاتلي الحركتين الأكبر في الساحة الفلسطينية, كانت كذلك عناصر من حركة "فتح" تقتحم وتدمر مكاتب فاروق القدومي أمين سر الحركة في غزة, وكانت عناصر أخرى من ذات الحركة تعتدي بالضرب المبرح على مدير مكتب وزير الداخلية, وهو رجل فتحاوي.. وهذا مجرد غيض من فيض.
مسؤولية اللجنة المركزية عن كل ذلك تتمثل في تخلي هذه اللجنة عن دورها ومهماتها, وقبولها حالة التهميش في عهد الرئيس الراحل ياسر عرفات, وتنازلها عن حق صناعة القرار, الذي انفرد به, ما أدى الى تقوية قادة امنيين على حساب القادة السياسيين, ثم توزع اعضائها بعد رحيله ما بين متنازل عن ذات الصلاحيات للرئيس البديل, أو مناكف له بهدف ابتزاز ذات الإمتيازات التي كان يوفرها لهم السلف, الذي تشي تصريحات بعضهم, وايحاءات بعضهم الآخر أنه لم يكن ابدا بصالح..! وقد التقى الجميع على ثلاثة أمور:
الأول: عدم التفريط بالإمتيازات والمكاسب. الثاني: عدم التفريط بعضوية اللجنة المركزية باعتبار هذه العضوية بوابة هذه الإمتيازات والمكاسب, حتى لو أدى ذلك ـ كما حصل فعلا ـ الى تأجيل, أو عدم عقد المؤتمر العام للحركة.
الثالث: الإمساك بتلابيب السلطة باعتباره البوابة الأوسع لتحصيل المزيد من الإمتيازات والمكاسب.
وبعبارة أخرى.. مركزية "فتح" ترفض تداول السلطة داخل الحركة, كما داخل المجتمع..! وهنا يكمن بيت الداء الفلسطيني.بالطبع, نحن لسنا من المنادين بأيلولة السلطة الى حركة "حماس", ليس لأننا نناصب هذه الحركة العداء, وإنما لأسباب ثلاثة, نقتنع بها:
اولا: أننا نحبذ نظرية التمثيل النسبي, ولا نحبذ سلطة الحزب الواحد, وذلك من واقع تجارب عديدة.
ثانيا: أن من حق جميع الذين شاركوا في مقاومة الإحتلال أن يكونوا شركاء في القرار.
ثالثا: أن لدينا هواجس حقيقية من المفاهيم الإجتماعية لدى الحركات الإسلامية على وجه العموم, غذاها مؤخرا رفض بلدية قلقيلية, التي تقودها حركة "حماس", التصريح لإقامة حفل فني, وارغام متعصبين آخرين جامعة النجاح في نابلس على وقف حفل فني للفنان عمار حسن.
الإلتقاء على قواسم مشتركة مع الإسلاميين لا يقلل من حجم الهواجس التي ينتجها لدينا التزمت الإجتماعي لديهم.يصعب الحصول على روايات متطابقة لتفسير حالات الصراع. الروايات دائما تتعدد وتتباين وتتضارب, ويصعب تحديد أيها قارب الصواب, وأيها جانبه.. غير أن المنطق لا يخذل المحلل, وإن كان التحليل لا يرتقي الى مستوى المعلومة. ولذلك, فإننا سنزاوج هنا بين التحليل والمعلومة.
هنالك شبه اجماع لدى المراقبين في ضوء نتائج المرحلتين الأولى والثانية للإنتخابات البلدية الفلسطينية, أن هذه الساحة تعيش الآن أجواء تقارب تلك التي سبقت, وأدت, الى احلال زعامة ياسر عرفات, وحركة "فتح", لمنظمة التحرير الفلسطينية سنة 1969, ووضع حد للمرحلة الإنتقالية بقيادة يحيى حمودة, التي اعقبت استقالة المرحوم أحمد الشقيري.
عام 1969 ساهمت بنادق المقاومة الفلسطينية بشكل رئيس في احداث التحول, والآن تعمل على احداثه بنادق المقاومة بالتزاوج مع صناديق الإقتراع.
"حماس" التي تتقدم عبر صناديق الإقتراع, ومقاومة الإحتلال, لا مصلحة لها في افتعال مواجهات مسلحة مع أحد.. ذلك أن هدف هذه المواجهات, بالنسبة لمن خطط لها ويدفع نحوها, هو محاولة وقف التحولات المنتظرة, واحتواء ارهاصاتها الشاخصة للعيان.. وهذا ما استقرأه بوضوح وصراحة, وعبر عنه بشجاعة بالغة حسام خضر, نائب حركة "فتح" في المجلس التشريعي, الأسير لدى سلطات الإحتلال.
لذلك, فقد سارعت "حماس" الى قبول جميع اقتراحات وقف اطلاق النار, بل إنها وافقت في آذار/مارس الماضي على اقتراح التهدئة مع اسرائيل, لأن التهدئة هي طريقها الى الفوز في الإنتخابات البلدية والتشريعية, في حين أن المواجهات الدموية قد توظف في تبرير وقف اجراء الإنتخابات.هذا ما يقوله منطق الأشياء, أما الوقائع في خطوطها العريضة, فإنها لا تختلف مع هذا المنطق في شيء.
في آذار/مارس الماضي, توج الحوار الفلسطيني ـ الفلسطيني برعاية مصرية في القاهرة بموافقة "حماس", وجميع الفصائل الفلسطينية الأخرى على اتفاق التهدئة, مع أن محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية لم يأت بأي تعهد اسرائيلي مقابل. وواظبت "حماس" وبقية الفصائل على التهدئة رغم تتالي الإختراقات الإسرائيلية. وهي فعلت ذلك في هذه المرة, ليس فقط من أجل تيسير اجراء انتخابات مقدر أن تفوز بها, وإنما كذلك من أجل تسهيل التزام حركة "فتح" وسلطتها ببقية بنود اتفاق القاهرة, وفي المقدمة منها:
اولا: دخول "حماس" الى منظمة التحرير الفلسطينية. ثانيا: اعادة تفعيل وبناء منظمة التحرير. ثالثا: اصدار قانون انتخاب فلسطيني جديد يعتمد قاعدة التمثيل النسبي لنصف المقاعد, والقوائم لنصفها الآخر.
فماذا جرى..؟ نص اتفاق القاهرة على تشكيل لجنة لتفعيل منظمة التحرير الفلسطينية من أعضاء اللجنة التنفيذية للمنظمة, والأمناء العامين للفصائل, وشخصيات مستقلة, على أن يدعو محمود عباس هذه اللجنة للإنعقاد خلال شهر من تاريخ 15/3/2005. غير أن عباس لم يدع هذه اللجنة للإنعقاد حتى الآن, ولا يزال يماطل في ذلك رغم مرور أكثر من اربعة أشهر على ابرام الإتفاق.
وبالتالي, فإن هذه المماطلة تؤدي, حتى لا نقول تهدف, الى الحيلولة دون دخول حركة "حماس" الى منظمة التحرير الفلسطينية. أما مشروع القانون الإنتخابي الجديد, فقد عطلت كتلة "فتح" في المجلس التشريعي اقراره الى ما قبل قرابة الشهرين, ووظف هذا التعطيل من أجل تأجيل اجراء الإنتخابات التشريعية. وحين وجد عباس ومركزية "فتح" ضالتهما في المجلس الثوري للحرك, كي تلزم كتلة "فتح" بإقرار مشروع القانون التوافقي الجديد. وبعد أن أقر مشروع القانون وأحيل الى رئيس السلطة كي يصادق عليه, اكتفى بوضعه في أحد ادراج مكتبه, تماما كما فعل ياسر عرفات من قبل, حين وضع مشروع القانون الأساسي في درج مكتبه, ولم يفرج عنه إلا بعد قرابة الخمس سنوات, وجراء ضغط المجتمع الدولي, وفي المقدمة منه اميركا.
الآن.. من يضغط على عباس كي يصادق على قانون الإنتخابات التوافقي..؟
من يقنع عباس بأن هذا القانون هو الضمانة للحيلولة دون اندلاع حرب اهلية, ولعدم انفراد "حماس" بالسلطة, ولعدم فرض المثل والقيم الإجتماعية للحركات على المجتمع الفلسطيني.. بل إن اقرار هذا القانون, والمصادقة عليه هي المدخل المضمون لاستئناف مسيرة التسوية السياسية, إن أراد.. ذلك أن "حماس" هي الأقدر على تمرير التسوية فلسطينيا, تماما كما هو شارون اسرائيليا, آملين أن لا تثير هذه الحقيقة المزيد من حفيظة عباس وقيادة "فتح".
اللقاء الأخير الذي جمع عباس في السابع من الشهر الجاري مع قيادة "حماس" في الخارج, في منزل خالد مشعل رئيس مكتبها السياسي, لم يقدم خلاله الرئيس الفلسطيني غير مقدمات سياسية انتجت اشتباكات غزة الحالية.فيما يتعلق بموعد الإنتخابات التشريعية رأى عباس أن تجرى اوائل العام المقبل بعد الإنسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة, وحين لفت محمد نزال عضو المكتب السياسي لحركة "حماس" نظره الى أن الإنسحاب الإسرائيلي سيتم خلال شهرين, وأنه سبق اجراء انتخابات رئاسة السلطة في ظل الإحتلال, وأن الإحتلال سيظل قائما في الضفة الغربية, صارح عباس الحضور بأن سبب التأجيل "متصل بوضعنا نحن وليس بوضع الإسرائيليين".
عباس اذا يريد عدم اجراء الإنتخابات قبل ضمان فوز "فتح", وعدم فوز "حماس". هكذا نفهم من "وضعنا نحن".
وفيما يتعلق بموعد اجتماع لجنة تفعيل منظمة التحرير, أعاد عباس تشغيل اسطوانة زيارة سليم الزعنون الى دمشق كي يستمع الى رؤية ووجهات نظر الفصائل بشأن آلية عمل اللجنة, وما هو المطلوب منها. وهو التكليف الصادر منذ اربعة أشهر في العلن, تلجمه اشارات خفية للزعنون بعدم الذهاب. وازاء الإلحاح, قال عباس إن الزعنون سيصل الى دمشق خلال اسبوع, وها هما اسبوعان مرا منذ ذلك الوقت والزعنون ينتظر اشارة التحرك..!
غير أن عباس أبلغ قادة "حماس" امران بالغا الأهمية يتعارضان مع اتفاق القاهرة:
الأول: أنه شخصيا لن يحضر اجتماعات اللجنة نظرا لمشاغله, مع أن اتفاق القاهرة يقضي بأن يدعو عباس, بصفته رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير, لعقد الإجتماع وأن يترأسه.
الثاني: "ليكن معلوما لديكم أنه ممنوع العودة للميثاق السابق لمنظمة التحرير".. أي أن عباس, كما قال له مشعل يقوم باستباق نتائج عمل لجنة التفعيل, خلافا للمنطق الذي يرى وجوب أن تطرح كل الآراء في اللجنة.
الجدل الذي دار بين عباس ومشعل يدعو للتساؤل عما اذا كان عباس يريد من ادخال "حماس" لمنظمة التحرير الزامها ببرنامج "فتح", أو ما اذا كانت "حماس" تريد أن يقر (بضم الياء) برنامجها هي ليصبح برنامج منظمة التحرير.
وبذات الطريقة وافق عباس على تشكيل مرجعية فلسطينية للفصائل في لبنان دون أن يحدد آلية عملها, أو تشكيلها, أو موعد هذا التشكيل, كما أنه تهرب من اشراك الفصائل في ادارة الأراضي التي ستنسحب عنها اسرائيل في قطاع غزة, قائلا إنه سيتم وضع لجنة المتابعة الفصائلية في القطاع في صورة التطورات.
أكثر من ذلك, حاول عباس الدفع باتجاه خلق خلاف داخل قيادة "حماس" من خلال الحديث عن امكانية عودة الدكتور موسى أبو مرزوق نائب رئيس المكتب السياسي للحركة الى غزة, من دون خالد مشعل رئيس المكتب..! إنه ذات الأسلوب الذي استخدمه عرفات وحول جرائه كل فصيل الى آلة تفريغ لفصائل جديدة بهدف اضعاف الجميع.
قبل اللقاء بين قيادة "حماس" وعباس, كانت قيادة حركة المقاومة الإسلامية أبدت حرصا شديدا على وحدة الصف الفلسطيني, تجلت في:
اولا: موافقتها على اقتراح التهدئة حتى تفقد ارئيل شارون أي مبرر للضغط على عباس للإيفاء بالتزاماته بموجب أول مراحل خارطة الطريق التي تقضي بتفكيك حركة "حماس" ونزع اسلحتها..! تفكيك "حماس" ونزع اسلحتها هو أحد التزامات السلطة بموجب خارطة الطريق..!! وهذا ما أكد عليه شارون في لقائه الأخير مع عباس. وهذا ما أكد عليه كذلك جورج بوش وديك تشيني. هل اشتباكات غزة هي السيناريو الذي قررته مركزية "فتح" للإيفاء بالتزامات الخارطة..؟!
ثانيا: قبول "حماس" دخول منظمة التحرير الفلسطينية. ثالثا: مشاركة "حماس" في الإنتخابات البلدية, وعدم مقاومتها قرار قضاء السلطة اعادة الإنتخابات في أهم مدن فازت بها في قطاع غزة.
رابعا: حرص خالد مشعل على اقامة حفل عشاء في منزله على شرف عباس أثناء زيارته لدمشق.
خامسا: تأكيد مشعل خلال الغداء الذي اقامه الرئيس السوري بشار الأسد على شرف عباس, ودعا اليه قادة الفصائل, "على تحقق وتكريس الوحدة الوطنية الفلسطينية, وعلى التفاهم مع الأخ أبو مازن". أكثر من ذلك قال مشعل أمام الأسد "اطمئن الجميع, واخوتنا في وسوريا, أن وحدتنا الوطنية قوية جدا بغض النظر عن تباين الإجتهادات حيال بعض القضايا".
لكن مشعل حين قال ذلك, لم يكن مغمض العينين, فقد سبق أن قال لفاروق القدومي رئيس حركة "فتح" قبل يومين فقط من التقائه عباس "كنتم تطلبون منا دخول منظمة التحرير, ولما قبلنا تراجعتم..! وكنا ضد المشاركة في الإنتخابات التشريعية ولما قبلنا تراجعتم..! ونخشى أن نقبل المشاركة في حكومة السلطة ثم تتراجعون".
والواقع أن عرض مشاركة "حماس" في حكومة السلطة كان يهدف فقط الى تبرير تأجيل انتخابات المجلس التشريعي, والحصول على موافقة "حماس" على العمل تحت قيادة "فتح" بغض النظر عن حجم الحركة الإسلامية الذي اظهرته صناديق الإقتراع للإنتخابات البلدية. ثم إن هذه المشاركة ـ إن تمت ـ ستتم على قاعدة البرنامج السياسي للحكومة القائمة.. ذلك أن القدومي أبلغ مشعل أن قريع لن يعيد تشكيل حكومته.. فقط سيضيف اليها وزيرا واحدا أو اثنان.
قبل ذلك اقدمت مركزية "فتح" على تشكيل مكتب للتعبئة والتنظيم في قطاع غزة برئاسة أحد اعضائها, الذي يحظى بالقبول الإسرائيلي (عبد الله الإفرنجي) وتم الإتيان به من المانيا خصيصا لهذه الغاية, وهو قاد مظاهرات مسلحة ضد حركة "حماس" اعتراضا على نتائج الإنتخابات البلدية, ومؤخرا, وفي اطار التحضيرات للمواجهات الأخيرة, أعد تعميما تحريضيا بحق جميع قادة "حماس" اتهمهم فيه بالسرقة والإختلاس, وكذلك عدم وجود ما يميزهم عن "فتح" سياسيا, ذلك أن التعميم يخالف اشتراطات عباس التي اوردناها قبل قليل بخصوص الميثاق الوطني الفلسطيني, وذلك عبر اصراره على موافقة "حماس" على الحل السياسي الذي كانت "فتح" سباقة الى قبوله.
إن لم يكن كل هذا تحريض واستعداد للمواجهات المؤسفة التي تمت, فماذا يكون..؟!
للتتق قيادة "فتح" الله في حركتها, فتعقد مؤتمرها العام, وتقر مبدأ تداول السلطة داخل الحركة, ولتتق الله في شعبها, فتقبل بمبدأ تداول السلطة على مستوى الوطن لتخلصنا من سلطة الحركة الحاكمة, واحتمالات انفراد حركة أخرى بالسلطة أو اندلاع حرب اهلية.
الشعب الفلسطيني بأسره شريك في الدم, والشعب الفلسطيني بأسره يجب أن يكون شريكا في القرار على قاعدة التمثيل النسبي. وبعد, فعلى كل الأقلام الوطنية الشريفة أن تتجند في هذا الوقت العصيب, فقط من أجل انجاز مهمة حقن الدماء الفلسطينية, والتصدي لمؤامرة تريد أن تكون هذه الدماء الزكية في مقدمة الإستحقاقات التي يراد تقديمها الى شارون..!!! - (الحقائق 20 تموز 2005) -