الجدل في قضية موعد الوصول الى نقطة التعادل الديمغرافي بين اليهود والعرب في المناطق الواقعة غربي نهر الاردن لا يظهر مؤشرات للهدوء، لا بل ان فك الارتباط المزمع يزيد الأمر تأجيجا ويؤكد جوهره: هذا الجدل لا يركز على المعطيات وانما يعتبر وسيلة علمية - مزعومة - للمواقف الايديولوجية.

هذا الجدل الذي يطابق عمره عمر الصهيونية اجتاز تغيرات كثيرة، وكان ذات مرة أداة لتجنيد اليسار المعتدل، وتارة اخرى وسيلة بيد اليمين المتطرف. في شكله الحالي يستخدم من قبل معارضي فك الارتباط المعنيين بشجب أحد الادعاءات المركزية التي يلوح بها أنصار الانسحاب من غزة والقائل ان فك الارتباط سيعفي الدولة من أكثر من مليون فلسطيني سيخصمون من حسابات التوازن الديمغرافي لتضمن بذلك وجود اغلبية يهودية على ما تبقى من ارض اسرائيل.

لا حاجة لفك الارتباط، كما يدعي معارضوه، لان الأعداد التي تنشرها مكاتب الاحصاء المركزية - الفلسطينية والاسرائيلية - مبالغ فيها ولان التعادل الديمغرافي بعيد، هذا اذا حدث في يوم من الايام. أنصار فك الارتباط و"الفصل" يمارسون التهديد والتخويف من ان التعادل الديمغرافي سيحدث في هذه السنة، واذا لم يُحسب غير اليهود من مهاجري دول الاتحاد السوفييتي سابقا في الجانب اليهودي من الميزان، فان اللحظة الحاسمة ستحل بعد عدة سنوات. في ظل الجدل المحتدم نُسي سؤال: ما هو الامر الدراماتي الى هذا الحد في حالة حدوث التعادل الديمغرافي وما هو المغزى الفظيع الكامن في فقدان الاغلبية اليهودية؟.

الجواب حسب كل المعسكرات الصهيونية بديهي: اغلبية غير يهودية في ارض اسرائيل تحول الجالية اليهودية الى أقلية في موطنها. هذا الادعاء مهما كان بديهيا يتردد فقط منذ ان تحولت الأقلية اليهودية في سنوات الانتداب البريطاني الى اغلبية إثر طرد مئات آلاف اللاجئين العرب في عام 1948 وتقسيم البلاد. خلال الانتداب لم تحل حقيقة كون قادة المستوطنات اليهودية حديثة العهد ممثلين للأقلية (ثلث السكان) دون مطالبتهم بالاستقلال وحق تقرير المصير، ولم يعتبروا ذلك تناقضا بين قيم الديمقراطية ورفضوا مطلب اغلبية السكان العرب باقامة دولة تمثل التناسب الديمغرافي العرقي.

الخوف الحالي من التعادل الديمغرافي جدير بالتقدير اذا اعتبروه دلالة على وجود قيم ديمقراطية، أي اذا أصبح الفلسطينيون اغلبية في ارض اسرائيل فان الجالية اليهودية ستفقد حقها في السيطرة على الدولة وحكمها، وبذلك تفقد هذه الدولة طابعها اليهودي.

هذا التوجه يفترض بصورة خفية ان الفلسطينيين سيحصلون على حقوق سياسية تمكنهم من ترجمة قوتهم الديمغرافية الى قوة انتخابية، ولكن لا يوجد أحد من كل الاتجاهات السياسية فكر في منح الفلسطينيين حقوقا قد تؤثر على طابع الدولة اليهودية، وفي المقابل نجد ان عدد الفلسطينيين المستعدين لاستبدال كفاحهم من اجل حق تقرير المصير بكفاح من اجل الحقوق المدنية، قليل.

لذلك نقول ان التخوفات الديمقراطية التي تتابع التعادل الديمغرافي زائفة: وما هي إلا فزاعة تستخدم لاخافة الناس ودفعهم الى مغادرة المناطق "كثيرة السكان الفلسطينيين" في الضفة الغربية وحتى في اسرائيل. من الطبيعي ان يكون خصم السكان الفلسطينيين من "التوازن" الديمغرافي أحادي الجانب ولا يأخذ بالحسبان مصالح السكان الذين يتم انتزاعهم منها والقدرة على العيش في المناطق "المتحررة" ولا يتناقض مع الادعاءات الديمقراطية الاسرائيلية. المعارضون يأتون "للبرهنة" على ان التهديد الديمغرافي هو فزاعة لا تخيف إلا الاطفال من اجل احباط التوجهات السابقة لخصومهم، ذلك لان المعطيات الاحصائية قد فُبركت على يد مكتب الاحصاء الفلسطيني الذي ينشر أعدادا مغرضة.

وربما يشعر الجانبان في الواقع ان خدعة خصم أعداد الفلسطينيين - سواء من خلال فك الارتباط عن المناطق المأهولة أو من خلال حذف المعطيات السكانية - لن تنجح، وهم يخططون لوضع الازدواجية القومية الذي سينشأ مع مأسسة الواقع الراهن الحالي. وبعد ان يحاول الاسرائيليون تأجيل النهاية قدر المستطاع سيتبين ان التهرب من معضلة الدولة اليهودية أو الديمقراطية ليس ممكنا، فالفلسطينيون ايضا سيضطرون الى حسم قرارهم بين الكفاح من اجل حق تقرير المصير وبين السعي لنيل الحقوق المدنية الجماعية. عندئذ ستتحول الفزاعة الديمغرافية الى تهديد حقيقي لان استخدام اسلوب "لكل انسان صوت" سيشكل جهازا مركزيا لا يستطيع ان يؤدي دوره في الظروف السائدة في ارض اسرائيل. المشكلة لا تتجسد فقط في الحقوق الفردية الليبرالية وانما بالأساس في الحقوق الجماعية التي تتصادم مع بعضها البعض ولا يستطيع الجهاز السياسي ان يحول اليها الاحتكاكات العرقية.

وسائل مواجهة "التهديد" الديمغرافي، سواء الخيار الرأسي أو الأفقي: خيار التقسيم الذي يقسم مناطق جغرافية حسب أعراقها أو خيار المشاركة في قوة الحكم الذي يخصص كتل حكم عرقية في جهاز فيدرالي. عندما سيبدأون أخيرا في التداول في مزايا ونواقص خيار التقسيم في مواجهة خيار المشاركة في قوة الحكم وليس تحت غطاء "التهديد الديمغرافي" سنعرف ان المعضلات القديمة قد أصبحت وشيكة الحل. - (هآرتس 16 حزيران 2005) -