ربما غفل الكثيرون من العرب، فلم يلاحظوا بعد أن قضية قضاياهم، أو قضيتهم المركزية في فلسطين (سابقاً)، قد تم اختصارها هذه الآونة فيما تدعى عقدة معبر رفح، أو في مسألة المعابر إجمالاً، أي إنها انحصرت، أو أُريد لها أن تنحصر في هموم تلك البوابة اليتيمة والمقفلة لسجن قطاع غزة الكبير... أو الموسّع، وفق مسميات الشرق أوسط الجاري إعادة جدولة مشروعه الأمريكي بعد تعثره هذه الأيام... المعبر القضية، أو قضية المنفذ الوحيد إلى الوطن العربي والخارج، أو مشكلة المعابر من وإلى القطاع المحتل، بعد إعادة الانتشار لجيش الاحتلال من داخله إلى من حوله، بشرتنا وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليسا رايس بأنها قد حُلت، واعتبرت ذلك منجزاً، لعله الوحيد، من منجزات جولتها الأخيرة في المنطقة... كيف حلت؟!
قبل الإجابة، علينا أن لا ننسى، أن لا أحد يتحدث اليوم عن ما كانت تدعى "مسيرة السلام"، ولا عن محطاتها الكارثية ايتداءً من أوسلو، مروراً بتقرير ميتشل وخطة تينيت وخارطة الطريق... وإلى تفاهمات شرم الشيخ أو إعلانها الخ، مثل هذه المسميات البائدة. كما قد لا يحلم أحد اليوم من عشاق المفاوضات بالجلوس قريباً إلى طاولتها. بل حتى غدت مسألة حصول السلطة الفلسطينية على مجرد موعد يلتقي فيه رئيسها مع شارون ضرباً من الأماني عزيزة المنال... ودون أن ننسى أيضاً: أن القدس شارفت عملياً على نهاية تهويدها. وأن الجدران التهويدية الزاحفة على بقايا الضفة الغربية تتواصل عملية بنائها قدماً، وإن المستعمرات المنتفخة بالمباني تزداد مع الأيام توسيعاً وامتداداً... بينما الحديث عن حكاية ما يعرف بالتهدئة، وهنا المفارقة، لا زال جارياً... ليس من قبل السلطة أو الوسطاء الدوليين والأشقاء الإقليميين فحسب، بل والمقاومين أيضاً... وهنا، ونحن بصدد هذه التهدئة، أو الالتزام الفلسطيني من جانب واحد بما يطلقون عليه إعلان شرم الشيخ، يجدر التوقف أمام تقرير أصدره مركز المعلومات الوطني الفلسطيني حول عينة من حصاد هذه التهدئة يقول:
أنه في أسبوع واحد، هو ما بين الثامن والرابع عشر من الشهر الجاري، سقط من الفلسطينيين ستة شهداء، آخرهم سقط اغتيالاً، ومنوا ب18 مصاباً، و89 معتقلاً، وتعرضوا أو تعرضت هذه التهدئة المزعومة إلى 639 انتهاكاً إسرائيلياً، تمثلت في عمليات إطلاق نار، وقصف مدفعي وصاروخي بري وجوي للأحياء السكنية، وإلى اقتحامات متكررة للمدن والبلدات والمخيمات، وإقامة حواجز عسكرية على الطرق المؤدية إليها. بالإضافة إلى عمليات الإغلاقات المتكررة، ومصادرة الأراضي، وضروب الاعتداءات الأخرى... وفي التفاصيل يرصد التقرير الآتي:
59 حالة إطلاق نار. 37 حملة اعتقالات. 56 حملة مداهمة، تم خلالها تنفيذ 133 اقتحاماً. 49 حملة لإقامة الحواجز المؤقتة، تم فيها إقامة 106 حاجزاً. كما أغلقت الطرق والمعابر 229 مرة، وحدث أن اعتدى المستعمرون على المواطنين الفلسطينيين 8 مرات، أما تجريف الأراضي الزراعية فكان أربع مرات. كل ذلك في أسبوع... أما كيف حلت قضية معبر رفح، فنترك الكلام لصحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية، التي أخبرتنا بالتالي:
"لن تكون الحرية الفلسطينية مطلقة: من غرفة رقابة تقام في معبر "كيرم شالوم" يتابع مندوبون إسرائيليون ، أوروبيون، مصريون، وفلسطينيون، الصور التي تصل في وقت حقيقي عبر كاميرات المتابعة في معبر رفح، وإذا ما لاحظ الإسرائيليون إرهابياً أو مشبوهاً آخر يحاول الدخول إلى القطاع، فإنهم سيتوجهون إلى الفلسطينيين ومندوب الاتحاد الأوروبي مطالبين بمنع دخوله. وسيصار على الفور إلى تأخير هذا الشخص لست ساعات، في هذه الفترة الزمنية يكون بوسع إسرائيل أن تعرض على الأوروبيين معلومات إستخباراتية بشأنه. والكلمة الأخيرة ستكون للأوروبيين: إذا اقتنعوا بأن الرجل خطير فسيتم تأخيره، حتى ولو اعترض الفلسطينيون... وفضلاً عن ذلك سيؤخر في رفح كل من يظهر في قائمة ممنوعي الدخول التي ستنقلها إسرائيل إلى الأوروبيين. وإن قوائم كهذه موجودة في كل معبر حدودي يدار بمعايير دولية. مثلما سيكون الحال بالنسبة لمعبر رفح من الآن فصاعداً، وقال مصدر سياسي أنه في هذه الظروف التي لا نوجد فيها جسدياً في رفح، فإننا حققنا الحد الأقصى"..!
... وتخبرنا "يديعوت أحرونوت" أيضاً، كيف أن وزير الخارجية الأمريكية كونداليسا رايس تمكنت من تحقيق إنجاز الحد الأقصى هذا، فتقول:
"مساء أمس، وبعد عودتها من زيارة عاجلة للأردن، قررت الدخول في المعمعان، فقد دعت إلى الفندق الوزراء الفلسطينيين، محمد دحلان، سلام فياض، وغسان الخطيب، وضغطت عليهم... وروت مصادر في الفندق بأن الحديث كان قاسياً، وأن رايس صرخت على الفلسطينيين، وادعت هذه المصادر بأن الحيطان اهتزت من شدة الصراخ"!!!
...إذن هكذا حلت كونداليسا رايس مشكلة المعابر، أو قضية المعبر الذي اختصروا فيه قضية شعب ووطن... بعدما بدا أنه لم تعد قضية اغتصابه، أي هذا الوطن، قضية أمة، أو بالأحرى قضية أنظمتها، أو هي على الأقل أصبحت كذلك لدى أغلب هذه الأنظمة... ولنتوقف أمام مؤشرات ثلاث تدلل على ذلك، ولنعتمد هنا أيضاً مصادراً إسرائيلية، جرياً على ما فعلنا أعلاه:
قالت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية ما يلي:
إن واشنطن تغير مقاربتها لمشروع الشرق الأوسط الكبير وتستعد لإدراج إسرائيل في مساعيها لدمقرطة المنطقة، وستغدو جزءاً من الحوار الإقليمي الذي تريده أمريكا. وذكّرت الصحيفة بأن واشنطن كانت قد تحفظت سابقاً في بداية عرضها لمشروعها الشرق أوسطي على إشراك إسرائيل خشية أن يثير ذلك حفيظة الدول العربية، غير أنه في إعقاب الخطوات الكثيرة التي تحققت لإشراك إسرائيل لم يعد هذا التحفظ بشدته الأولى. بل إن رايس امتدحت جهود شالوم في سياق تعزيز العلاقات مع الدول العربية، وأخبرته أن "هناك مجالاً لإشراك إسرائيل، وقد قلت ذلك أيضاً لزعماء عرب"، وأبلغته بالتالي بأنه سيتم إدراج إسرائيل في المبادرة الأمريكية لتعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان في الشرق الأوسط وشمالي إفريقيا... وفي مجال امتداحها لجهوده قالت إنها تتوقع أن تسمع منه قريباً عن اختراقات إضافية... والسؤال هنا، مالذي ستفعله إسرائيل لمساعدة الولايات المتحدة في دمقرطة المنطقة؟!
تجيب الصحيفة: كانت إسرائيل قد قدمت عرضاً لواشنطن في هذه المجال، أي أن تسهم في عملية الإصلاحات الجارية في المنطقة العربية بمالها من الخبرة التي تقول أنها قد اكتسبتها عبر عملية غرس القيم الديمقراطية في صفوف الفلسطينيين في المحتل من فلسطين عام 1948، وعليه، فإن بإمكانها، وهي لديها هذه الخبرة، إقامة مشاريع تربوية في العالم العربي لغرس الديمقراطية وتعليم العرب كيفية إجراء الانتخابات..!!!
وحيث أن مثل هذا لم يعد يثير حفيظة الدول العربية، كما رأت هآرتس، وحيث تتوقع كونداليسا رايس أن تسمع عن اختراقات إضافية يحققها شالوم قريباً، عنونت زميلتها "يديعوت أحرونوت" افتتاحية لها بهذه العبارة: "الغيت المقاطعة"، زفت فيها ما دعته "خبرين حسنين عن نسيج العلاقات المتجدد مع العالم العربي"، وكان الخبران هما، كما قالت، إلغاء دولة عربية تماماً مقاطعة إسرائيل إقتصادياً، وفتح الأخرى أبوابها لوفد رسمي إسرائيلي يرأسه وزير الخارجية سلفان شالوم ويضم مائة وخمسين عضواً... وهنا نأتي إلى المؤشر الثاني:
هاجم شالوم من على منبر "القمة العالمية لمجتمع المعلومات" الذي تستضيفه العاصمة التونسية سوريا، واعتبر زيارته لتونس "خطوة مهمة لتعزيز علاقاتنا مع سائر أصدقائنا العرب"... لاحظوا "أصدقائنا" هذه... وأكد من هناك، أنه "لا شك أن وضعنا أفضل اليوم فيما يتعلق بالعلاقات مع العالم العربي"... و على هامش المؤتمر نقلت "هآرتس" أن شالوم قد "دخل كنيس جربة مصحوباً بأنشودة المزامير"، وتابع الإعلام الإسرائيلي بشغف وقائع زيارته المثيرة مع عائلته إلى مسقط رأسه وتفقده للبيت الذي ولد فيه في مدينة صفاقس. وركز على قوله لمن معه هناك أن "جذوري هنا"... وبعد أن قفل شالوم تاركاً جذوره هناك عائداً من البيت الذي ولد فيه إلى البيت الذي احتله، بالغ هذا الإعلام في الإشارة إلى لقاءاته العربية الرسمية على هامش المؤتمر الدولي، وأشاد بمصافحة تمت على هامش هذه الرحلة الشالومية بين وزيرة الاتصالات الإسرائيلية وعضو الوفد إلى المؤتمر داليا اتيسك، وزميلتها وزيرة الاتصالات العراقية جوان فؤاد معصوم، وتبادلهما أرقام الهواتف الشخصية!
...والمؤشر الثالث:
نشرت صحيفة "جيروزلم بوست" الإسرائيلية صورة تذكارية لضباط طيران كبار قالت أنهم عرب وإسرائيليون وأطلسيون أمام مقر سلاح الجو الإسرائيلي في هرتسيليا، كاشفةً بذلك عن ما إدعته من"أن قادة أسلحة الجو من حلف شمالي الأطلسي، وعدداً من كبار الضباط من خمس دول عربية نظموا رحلة دراسية" إلى فلسطين المحتلة "للتعرف على سبل مكافحة الإرهاب من الجو"، حيث، كما قالت، أشرك الإسرائيليون ضيوفهم في تكتيكاتهم المستخدمة لمكافحة ما أسمته الصحيفة الإرهاب الفلسطيني، وإن هؤلاء الضيوف كانوا مهتمين على وجه الخصوص بسياسة إسرائيل "الناجحة والمثيرة للخلاف" حول الاغتيالات الجوية... التي أصبحت على ما يبدو مادة دراسة يفيد منها، كما زعمت الصحيفة، الأطلسيون وخمسة دول عربية!
وختمت الصحيفة: لقد عرض قائد سلاح الجو الجنرال شيكيدي على ضيوفه "هيكلية السلاح والترابط بين العمل الإستخباري والعمل التنفيذي... كما نظم لهم زيارة للقدس العتيقة وكنيسة القيامة وحائط المبكى"..!
لعل الحديث الإسرائيلي عن مسار التطبيع الرسمي المعلن وغير المعلن بين العرب ومن كان عدوهم لا ينقطع هذه الأيام... وكذا الأمر حيال أنباء ومشاهد مسلسل الدم الفلسطيني المراق على مدار الساعة في فلسطين والمنعكس، بلا انقطاع أيضاً، على شاشات التلفزة العربية، وبالتوازي مع الحديث عن التطبيع... فإذا ما صدق ولو نصف الحديث الإسرائيلي عن تسارع وتائر هذا التطبيع، واستمرت الإشاحة العربية عن مشاهد الدم الفلسطيني المراق، الذي تحول مع الأيام إلى ما هو المعتاد والمألوف في العين العربية، فإن محاولة اختصار قضية قضايا العرب المركزية في فلسطين في معبر رفح، أمر لم يعد ضرباً من الخيال... وقد لا يكون غريباً أو مستبعداً أن يتم حلها، أو بالأحرى تصفيتها، أيضاً، بذات الطريقة التي حلت بها رايس قضية هذا المعبر!!! -(الحقائق 21 تشرين الثاني 2005) -