ناقشنا أكثر من مرة، مقترحات شراء السلطة الفلسطينية، للمياه العذبة، لقطاع غزة، من إسرائيل، وكان الأمر، في موضع تمحيص الخبراء. وتعاطت سلطة المياه الفلسطينية، مع المسألة، بأسلوب المداراة وإغلاق فتحات الحديث. وأثيرت حكاية المياه، في المجلس التشريعي الفلسطيني، وسمعنا تطمينات بأن فرضية الشراء، ليست جدية، وتناولنا السند الأوسلوي، الذي يقرر علي السلطة أن تدفع الأمور المائية، في اتجاه استيراد عشرة ملايين متر مكعب، وقلنا إن بنود أوسلو، كانت بالنسبة الي غزة، تتعلق بالمرحلة الانتقالية، مثلما قلنا ان من الخطأ، ومن الخطورة، أن نساعد في تكريس وضعية، يكون فيها شفط مياهنا من تحت أقدامنا، ثم بيعها لنا. وقلنا كذلك، إن القائمين علي شؤون المياه، كأنما تركوا عملية الهدر في الاستثمارات المخصصة للقطاع المائي، تجري علي قدم وساق، لكي تصل الأمور الي استيراد المياه من الخواجا شارون.
وطرحنا ظنوننا بأن يكون هذا المنحي، غير فلسطيني التقديرات، وغير فلسطيني التوجهات، وغير فلسطيني الأهداف، وإنما شرق أوسطي، وذو علاقة بعملية تطبيع إقليمية، مع الدولة العبرية، بعيدة عن الأضواء، تريد فرض أمر واقع، في قضايا استراتيجية عدة، من بينها المياه!
غير أن ما جري قبل أيام، في صالة الشجاعية الرياضية، هو حفل افتتاح المشروع الطاريء لنقل المياه الي خزان المنطار . ولم تكن هناك إشارة، في بطاقة الدعوة، الي الجهة التي سيُنقل منها الماء، علماذ بأنه سيُنقل من الشبكة الإسرائيلية، بتكلفة عالية، ندفع ثمنها من مقدراتنا الضئيلة، الأمر الذي يعني ـ بصراحة ـ أن بعض دوائر اتخاذ القرار التنفيذي، ومنها سلطة المياه، غير موصولة بشيء من أوقاتنا، لا بالرأي العام، ولا بالخبراء الفلسطينيين، ولا بالمجلس التشريعي، ولا بالواقع الذي يوجه لنا دعوة مفتوحة، للاستثمار الوطني في حقل المياه، في الأراضي التي كانت تجثم عليها المستوطنات. بل يبدو أن الشرق أوسطية قبل أوانها، وبدون أن يقدم الطرف الإسرائيلي، استحقاقاتها علي صعيد عملية السلام، قد باتت لعبة البعض، في السلطة الفلسطينية!
أنت تريد وأنا أريد، والله يفعل ما يريد. هكذا نفهم الأمور حتي الآن. لكن الوضع اليوم، مثلما يراه البعض، في السلطة الفلسطينية، هو أنك تريد، وأنا أريد، والخبراء الفلسطينيون والعرب يريدون، والمصلحة الفلسطينية العليا تريد، لكن US aid تفعل ما تريد. ونستغرب هذا الفلتان الذي هو أدهي وأسوأ من الفلتان الأمني، بل ربما يكون الفلتان الأمني، مقصودا وملعوبا، للتمهيد لهذه الأنماط من الفلتان. وقلنا أكثر من مرة، إن موضوع المياه، يستحق أن يُناقش علي مستوي سياسي عالٍ، يكون موصولا بمستوي تقني عالٍ، ونستهجن بشدة، هذه الطواعية لـ US aid التي لم تظفر بطواعية مثلها في العالم. وكأننا لسنا سلطة منبثقة عن حركة وطنية. فها هم اللاتينيون، في أمريكا الجنوبية، يشترطون ربط موضوع منطقة التجارة الحرة، بين الأمريكتين، بموافقة منظمة التجارة العالمية، في اجتماعها الشهر المقبل، في هونغ كونغ، علي دعم الإصلاح والتطوير الهيكلي لقطاع الزراعة، في بلدانهم، ولم يتهللوا فرحا بمقترح منطقة التجارة الحرة، ولم تتطوع أوساطهم الرسمية بتسويق المقترح، دون تسويق شروطه!
اللافت أيضا، هو أن أخصائيي سلطة المياه الفلسطينية نفسها، يعارضون الشراء من إسرائيل، ويطرحون مقترحات بديلة، من وجهة نظر الجدوي الاقتصادية، التي إن أضيفت لها السياسة، وإن أضيف لها عامل إخلاء مستوطنات غزة، نكون بصدد فضيحة مشهودة! أقيم قبل أيام، حفل افتتاح مشروع الخط الناقل، دونما إشارة للمنقول منه، أو لأسعار الماء المنقول. وبالطبع دونما إشارة، لأفق التنمية في القطاع المائي. ويُقام الافتتاح، بخلاف ما جرت عليه مناقشات حكومية، ومناقشات في التشريعي. ومقيمو الافتتاح، يستغلون غياب أي نسق للقرار الفلسطيني، لكي يستمروا في المشروع. وفي الافتتاح جرجروا معهم بلدية غزة، التي ربما تكون قد نظرت الي المشروع، باعتباره مجرد مياه، لخزان المنطار! نطالب بوقف شراء مياهنا من المحتلين غاصبي مياهنا وأرضنا، كما نطالب بمساءلة القائمين علي سلطة المياه الفلسطينية، بحضور خبراء فلسطينيين وعرب، لكي لا تمر هذه المصيبة، خصما من مقدراتنا ومن أوراقنا السياسية! -(القدس العربي 25 تشرين الثاني 2005) -