رغم أن المرء لا يتفق مع الجزيرة حين يقدم مذيعوها فلسطين على أساس أنها إسرائيل مثلهم في ذلك مثل كل المطبعين ومثل كل الغربيين،وكذلك عندما يستعملون عبارات مثل حدود إسرائيل الشمالية مع لبنان و الخ،ورغم أن مثل تلك العبارات تحرك الجراح وتثير الشفقة على حال امة عربية لم تعد واحدة ولم تحفظ الرسالة الخالدة ..ورغم تراجع العبارات التي تربت عليها أجيال عربية عديدة،ورغم انخراط الإعلام العربي الرسمي واللا رسمي في استعمال تلك العبارات والتسميات..رغم أن المحطة هي ملك لحكومة قطر بشخص أميرها،والتي بدورها تقيم علاقات مع الاحتلال الصهيوني في فلسطين،وتلعب دورا متقدما جدا في التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي،وتستضيف على أراضيها الصغيرة اكبر قاعدة أمريكية تتجسس على بلاد العرب والمسلمين وتعد الخطط لضربهم.

رغم كل تلك الأشياء المرفوضة،فان محطة الجزيرة القطرية بقيت واحدة من أهم الفضائيات والقنوات العربية التي قدمت الخبر طازجا وساخنا،فأقلقت الإدارة الأمريكية ومن قبلها الحكومة الصهيونية وكذلك الكثير من الحكومات العربية،وهذا بحد ذاته شيء كبير وجميل ومحترم يسجل لها ولمالكيها.

أذكر أنني كنت قد شاهدت وزير خارجية قطر في حوار مع الجزيرة وقد ضاق ذرعا بالمحطة ،ثم قال لمحاوره : انتم تسببون لي وجع رأس أينما ذهبت.. ووجع رأس الوزير القطري تسببه أخبار وتقارير الجزيرة عن الحكومات الشقيقة،وتلك الحكومات كانت ومازالت ترفض أداء الجزيرة المميز.ولكي نعدل نقول ان حال الديمقراطية في بلد الوزير والجزيرة ليس أفضل من أحوال بقية الدول الناطقة بالضاد.فباستثناء مشروع قناة الجزيرة الفضائية تظل قطر مثل بقية الدول العربية جزء من بحر الظلمات العربي الكبير.

أما قناة الجزيرة نفسها فتظل جزيرة إعلامية عصية بالرغم من كل الأعاصير التي واجهتها وتواجهها،وليس غريبا على جورج بوش وتوني بلير ألد أعداء العرب والمسلمين وحريات الشعوب خارج بلديهما أن يتحدثا ويناقشا و(قد يكونا اتفقا) على قصف المقر الرئيسي لقناة الجزيرة في الدوحة. وما قصف مقرات ومراسلي الجزيرة في كابول وبغداد (حيث سقط منهم الشهداء) سوى نقطة في بحر الظلمات الأمريكي البريطاني. ويتضح اليوم أنه من الوارد والمحتمل أنهم قصفوا تلك المقرات بقرار من أعلى المستويات السياسية،مما يعني أنهم قتلوا الصحافيين مع سبق الإصرار والترصد وبقرار عالي المستوى،بغية إخراس الصحافة وإبعادها عن الحدث ومنعها من تقديم مادتها بشكل مهني صحيح. كما ويعني كذلك أن الأمريكان والبريطانيين كانوا ينشرون أخبارا كاذبة عن سير المعارك والأحداث وعن قصف المدنيين وكذلك الصحافيين وشطبهم واغتيالهم واعتقالهم وإبعادهم.وعن استعمال الأسلحة المحرمة والممنوعة،كما حصل في تورا بورا وأمكنة أفغانية أخرى حيث تسببت تلك القنابل الضخمة في حدوث الزلازل فيما بعد في باكستان والهند وأفغانستان وايران وغيرها. وكما حدث في معارك الفلوجة حيث أباد الغزاة آلاف السكان العراقيين. ومن يدري ما هي أنواع الأسلحة التي استعملت أيضا في غزو واحتلال العراق،حيث ان البلد تكاد تكون حقلا للتجارب الأمريكية البريطانية والإسرائيلية في مجال تجريب أحدث الصناعات الحربية وخاصة المحرمة دوليا .. ومن يدري ما الذي جرب من الأسلحة وما الذي سوف يجرب في العراق.

لقد لعبت الجزيرة دورا رياديا في تغطية الحرب من أفغانستان والعراق وكانت تنقل الخبر بدقة وحيادية وبدون تدخل أو انحياز, وقد تم استهداف مراسليها وقتلهم وتعمد قصفهم وشطبهم من قبل قوات الاحتلال الأمريكي البريطاني.ومن تبقى منهم تم اعتقاله بتهم ملفقة ومركبة مثل سامي الحاج في افغانستان الذي لازال معتقلا في معتقل غوانتانامو،كذلك قضية الصحافي تيسير علوني في أسبانيا الحديثة..

حاولت الإدارة الأمريكية ومعها الكثير من المتضررين من جرأة وصدقية الجزيرة الضغط على القناة وأصحابها والقائمين عليها لإغلاقها أو إخراسها او تبديل سياستها المهنية والإعلامية، لكن كل ذلك لم ينجح ولم تتبدل الجزيرة كثيرا مع أنها خضعت لبعض الضغوط الطفيفة حيث غيرت قليلا من سياستها لكنها لم تغير من محتوى وموضوعية وجرأة المحطة. وما تفكير بوش وبيلر بقصف الجزيرة سوى دليل جديد وإضافي على يأس الغزاة والاحتلال من وضعهم في المستنقع العراقي. وقد أحسن وصفا المتحدث باسم حزب الديمقراطيين الليبراليين الإنكليزي السير منزيس كامبل عندما قال " إذا كان ما ورد في هذه الوثيقة صحيحا،فأنه مؤشر على مدى يأس الإدارة الأمريكية". وهو بالفعل مؤشر كبير على مدى الورطة التي تورطت فيها جيوش القوة الأعظم في العالم،حيث أنها تنهار وتداس بنعال أطفال العراق،هؤلاء الذين وُعدوا بالفرج والحرية والمستقبل الأفضل،لكن كل ما وُعدوا به كان كذبة كبيرة اسمها الاحتلال،وسرقة نفط البلد،ونهب ثرواته وتاريخه وآثاره،وتصوير قادته على أساس أنهم مجرمون وقتلة ولصوص، مع أن قادة العراق الجديد وقادة الاحتلال ليسوا أحسن حالا بل نستطيع القول انهم أسوأ بكثير لأنهم جلبوا الويلات على العراقيين. فمنذ احتلالهم العراق لم يعد هناك امن ولا سلام ولا هدوء ولا استقرار ولا بنية تحتية،وفقد العراقيون النفط والماء والغذاء مع ان بلدهم من اكبر مصدري النفط،وثاني اكبر احتياط نفطي في العالم،وفيه نهري دجلة والفرات،ولديه من النخيل ما يكفي لسد رمق ملايين الجياع في العراق وجواره. نعم لقد جاءوا بالويلات على العراق وهذا ما كشفته تقارير مراسلي الجزيرة من الفلوجة وغيرها من المدن العراقية التي عرفت بمدن المقاومة.وقد كشفت الجزيرة عن أساليب الشطب والتدمير وسياسة الحرق الجماعي التي تمارسها قوات الاحتلال،لذا كان يجب عقابها ومحاسبتها وحتى إسكاتها بتدمير مقرها الرئيسي على من فيه من صحافيين وعاملين وأبرياء ومدنيين.

إنها العقلية الأمريكية البريطانية الجديدة،عقلية يد العدالة الإلهية البوشية الاستعلائية،عقلية الحقد والكراهية والعداء للعرب والمسلمين مدنيين وغير مدنيين،صحافيين وإعلاميين وغير صحافيين وإعلاميين. عقلية معي او ضدي ،وما لقيصر لقيصر وما لعبده لعبده.. فأما أن يكون العرب رقاً وعبداً وضد نفسه وأمته ومصالحه،ومع إدارة بوش ومخططاتها. وإما أن يقصف ويباد كما تباد الحشرات والذباب أو كما أبيد الهنود الحمر سكان أمريكا الأصليين. لكن ورغم الحقد الأمريكي الدفين والآخر المعلن نقول للجزيرة عليك البقاء جزيرة للإعلام العربي الحر والمميز، وأن تقفي ضد الريح والأعاصير وتواجهي تسوناميات (من توسنامي) بوش وبلير وغيرهم بالمزيد من الأخبار المزلزلة، المميزة ،الساخنة ،الحقيقية والصادقة التي تفضحهم وتنشر غسيلهم وتظهرهم على حقيقتهم. فالجزيرة في كل بيت عربي وحيثما وجد الإنسان العربي.

مفتاح (11/26/2005).