أقبل أمي يديك الطاهرتين و جبهتك المتوضئة ووجنتيك يا أم فلسطين فرحات وأستميحك عذرا ببعض كلمات هي كل وسيلتي للقربى أطلب بها محبة الصالحين ورضى رب الصالحين وصحبتهم يوم يحشر الناس مع من أحبوهم في الدنيا.

في صغري كنت أعتقد أن كل ما أراه في التلفاز هو كأفلام الكرتون، تفتق الخيال والأوهام، فلما بدأت أعي كينونتي الإسلامية التي تستلزم أن تكون فلسطين قضيتي بنسبة الدين أولاً لا بنسبة الأباء والأجداد فقط أدركت أن الصور ليست كلها خيالات ولا هي مفرحة باسمه كأفلام الكرتون، فقدت عندها براءة الطفولة، كنت أرى الدنيا بألوان قوس قزح لا يغلب فيها لون على لون فلما اصطبغت الصور بالحمرة القانية عرفت أن عهدي مع خيالات الطفولة ولى لتحل محلها كوابيس يومية تعرض على مدى أربع و عشرين ساعة تجعل الولدان شيبا. كانت الصور تزيد بشاعة وألما فأحاول إقناع نفسي أن هذه أيضا خيالات، فيلم رعب دموي سينقضي بمجرد أن أقفل التلفاز ولكن زمن عرض الصور طال واستطال من عهد جدي إلى عهدي وها أنا أورثه لابنتي فاطمة والقصة مبسطة والقضية عدل والحكم مؤجل رواها لي جدي في الخامسة وما أراها تغيرت بعد عشرات السنين: هذول يهود وهذول مسلمين، اليهود سرقوا فلسطين والمسلمون بدهم يرجعوها عشان هيك اليهود بقتلونا بس الله راح ينصر المسلمين بالنهاية، حكاية دامت أكثر من ألف ألف ليلة وأدرك شهرزاد الفلسطينية أكثر من ألف ألف صباح وما سكتت ولا سكت أبناؤها عن الكلام والفعل المباح وبقي الصغار يلعبون لعبة المسلمين واليهود كلنا يتجنب فريق اليهود لأنه كان يخسر دائما أو هكذا أردنا له.

هكذا كان موقفي عندما رأيتك يا أم نضال فرحات لأول مرة مع ابنك محمد في وصية استشهاده ..لم أصدق ما رأيت وعاودتني هلوسات العاشرة من عمري بأن كل ما يعرض في التلفاز محض خيال. كلنا يعرف الخنساء من لقبوك بلقبها وقصتها مع أولادها الذين تشرفت باستشهادهم ولكن الخنساء زمن مضى وانقضى، صفحة ناصعة من كتب التاريخ يوم كنا وكانوا وكان لنا، كلها أفعال ماضية لأشخاص مضوا وسير فاضله عفى عليها وعلى أصحابها الزمن فأصبحت تستنطق شعرا وقصصا وأهات وفخرا في سلسلة التباكي على الأمجاد الغابرة يوم كان لنا الصدر دون العالمين أو القبر.

ولكنك جئت الآن حاضرا مفعما مجسدا مؤمنا مخيفا..نعم مخيفا لأنك أحييت الميتين ونحن في موتنا نخاف من صحوتهم، كلنا يتيه بأبوتهم لنا ولكن شيمنا وأفعالنا بعيدة عن الاقتداء بهم. قالوا عنك ملاك، قالوا وليه، قالوا ليست من البشر وصدقت كل ذلك وأصدقه أتدرين لماذا؟؟ لأنه عندما ترتفع حرارة ابنتي درجة فوق المعتاد وهو عرض طبيعي يصيب كل الأطفال ترتفع حرارتي درجات وأصاب أنا بالوهن قبلها، لا أستطيع أن أتخيل أني أودعها وأشد على يدها أو حتى أربيها لتكون شهيدة بالرغم أني موقنة بأجر الشهادة ومنزلة الشهادة. الفرق بيننا أن سقفنا كأمهات هو الحياة الدنيا بينما أنت ترينها لبنة في بناء الحياة الباقية لذلك نحن أمهات لأسماء من عباد الله الكثر ستغيبهم القبور بعد أعوام طالت أو قصرت بصلاح أو فساد وأنت أم نضال فرحات خنساء فلسطين والمسلمين، الآية المتجددة، كلنا غثاء كإبل مائه ووحدك أنت الراحلة قدوة لأمة بأكملها و بلاغ لرسالة ربانية وصدق سبحانه إذ قال :{الله يصطفى من الملائكة رسلا و من الناس}.

لا يعلم القلوب إلا الله ومع ذلك بودي لو أدخل إلى قلبك لأعرف حقيقة مشاعرك، ألا تتألمين، ألا تبكين ،ألا تشعرين بالشوق لهم، كيف تعيشين، كيف تستعينين بالله وكيف وكيف وكيف، بودي لو أعرف أم نضال الإنسانة، الأم التي استودعت عندها ثلاثة رجال لسنين من عمرهم ثم ردتهم بطيب نفس بل رافقتهم في أولى خطواتهم عودا إلى صاحب الوديعة، نريد أن نتعرف على الانسانة فالاقتداء بالبشر ممكن حتى وان كانوا في مصاف الربانيين والصالحين والصديقين والشهداء.

قالوا يا حسرة على شبابهم، يا حسرة على شبوبيتهم، يا حسرة على سنين عمرهم وكان لسان حالك يقول ليسوا خسارة في ربهم، أنت تستثمرين مع الله ونحن نستثمر أولادنا ليكونوا عضدا لنا فيحملوا أسمائنا ويرثون أموالنا.

أبناؤك الشهداء الثلاثة على فضلهم وكرامتهم ليسوا هم الآية فهم ككثيرين من أبناء شعبهم وأمتهم ولكن من من أمهاتنا مثلك؟؟ أنت الآية فالولد يتبع الأم والرجال يرثون عناصر عظمتهم أولاً من أمهاتهم فمن أراد أن يعرف كيف تربى الشهداء عليه أن يتعرف إلى من ربتهم.

لا أخفيك أني ذكرتك كثيرا بعد استشهاد ابنك رواد وبالذات في أول يوم من رمضان فرمضان من المواسم التي يحس المرء فيها بحميمية أجواء العائلة واجتماعها، من المواسم التي أرى فيها الأمهات تتهلل وجوههن فرحا وأبناؤهن يدخلون عليهن ليشاركوهن الأفطار، تألمت لك وعليك فواجهتني الآية {ولسوف يعطيك ربك فترضى} تنزل والرسول صلى الله عليه وسلم محاصر في الشعب لا يجد كسرة خبز ولا شربة ماء ولا خديجة سكن القلب ولا أبو طالب صاحب النصرة، قالها سبحانه له وللمسلمين ولك أيضا {ما ودعك ربك وما قلى} هذه المواسم التي تفتقدين كلها دنيا {وللآخرة خير لك من الأولى} حيث ستلاقيهم إن شاء الله {على سرر موضونة متكئين عليها متقابلين يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين..جزاء بما كانوا يعملون}، أمومتنا أمومة كل واشرب وتعافى وادرس وتزوج وأنجب وأمومتك امن وتربى وارتق وجاهد، أمومتك أمومة للدنيا والآخرة أمومة كأمومة امرأة عمران إذ قالت: {رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني انك أنت السميع العليم}.

قال المؤرخون : الحروب لا تدور على جبهات القتال ولكن في قلوب الأمهات فهنيئا لك يا أولى المنتصرات.

ولله درهم من أبناء أولادك لم يكتفوا بشفاعة محمد فغبطه نضال وأصر أن يعطيك ثانيه فغار رواد وألى على نفسه أن يبعث لك بنسائم الجنة، شفاعة ثالثه تثبت قدرك وترفع منزلتك بإذن الله ويا حسرة أمهاتنا وآبائنا فجل ما نقدر عليه لهم دعاء أو صدقة بعلم أو بظهر الغيب أو بر ، بينما أولادك يقدمون بين أيديك شفاعة إلى الله من ثلاثة شهداء.

حسبتها حسبة بسيطة فبثلاثة أبناء شهداء يكون لكم شفاعة في مائتين وعشرة أشخاص،هذا دون المضاعفة الربانية، فوددت لو أني من أقاربكم أو من أحبابكم أو من أخوانكم لعلي أكون من هؤلاء فأفوز.

بقي أمر واحد لاكتمال الآية يا أم نضال وأنا متيقنة أنك تدعين به ليلا ونهارا ألا وهو الشهادة، استشهادك أنت الذي والله اعلم إن لم يكن بالجسم فعلا فسيكون مثل استشهاد سيف الله المسلول خالد بن الوليد الذي ما كان في جسمه موضع إلا وفيه ضربة سيف أو طعنة برمح ومات مع ذلك على فراشه لأنه سيف من سيوف الله لا يكسر على يد البشر وأنت مثله آية من الآيات ما في جسمك وقلبك موضع إلا وفيه دفق من إيمان ودماء من صبر ورضى ورجاء في قبول ونية في لحاق ولك البشرى في حديث المصطفى [أكثر شهداء أمتي أصحاب الفرش].

وإنك لعلى موعد و إنا لمنتظرون. - (الحقائق 12 تشرين اول 2005) -