إن ما تقوم به الطائرات الإسرائيلية من غارات وهمية وهي في الحقيقة همجية وهو ما يعرف علمياً باختراق حاجز الصوت يعتبر عقاباً جماعياً بحق أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة. وهو بذلك يعد جريمة حرب ترتكب عن سبق الإصرار والترصد ضد أطفالنا ونسائنا وشيوخنا. وهذا يتطلب من مؤسسات حقوق الإنسان الفلسطينية التنسيق مع مؤسسات حقوق إنسان أوروبية في رفع القضية إلى المحاكم الأوروبية في بلجيكا ولندن وغيرها. وما أرغب بكتابته هنا هو شهادة عيان عما وقع معي وأمامي في قاعة المحاضرات في يوم الخميس الموافق 27/10. حيث بدأت محاضرتي كما هو معتاد كل خميس الساعة الثامنة صباحا في مبني الجامعة في خانيونس. وبعد وقوفي أمام طالباتي البالغ عددهن نحو خمس وسبعين طالبة بنحو ربع ساعة حدثت غارة صوت إسرائيلية شديدة الانفجار أدت إلى ارتجاج المبني، وصراخ بعض طالباتي فيما بدا الخوف الشديد على وجوههن. ولكن صرخة إحدى الطالبات كانت مدوية حيث وضعت يديها على أذنيها وتشنجت في المقعد وغابت عن الوعي. وقد آثار ذلك الفوضى في الفصل حيث حاولت بعض الطالبات الوقوف والتجمع حول الطالبة. فطلبت من الطالبات العودة إلى مقاعدهن حتى يتم إعطاء الفرصة للطالبة فاقدة الوعي للتنفس. كما طلبت من طالبة أن تحضر ماء لرشه على وجه الفتاة فيما طلبت من طالبة أخرى استدعاء ممرض العيادة في الجامعة الذي كان متغيباً لأسباب أجهلها، فيما تابعت طالبة ثالثة الطالبة المغمى عليها. ولذلك طلبت من عدد من الإداريين الذين هرعوا إلى الفصل الدراسي لرؤية ومتابعة ما حدث استدعاء سيارة إسعاف للطالبة التي لم تفق من غيبوبتها بالرغم من رش الماء على وجهها. وقد تم نقل الطالبة إلى عيادة الجامعة لإكمال محاولة إنعاشها. وقلت للطالبات: سوف نكمل المحاضرة لنثبت أننا لن نركع ولن نهزم وأن ردنا على الاحتلال هو موصلة حياتنا، وان شعبنا يعشق الحياة كما يعشق الموت. وأننا سنواجه الاحتلال بإرادتنا الصلبة التي لن تكسر وجزء من ذلك هو مواصلة الدراسة والتعلم حتى تحت وقع القصف. فهذا هو الرد العملي على جرائمه.
ولكن بعد نحو عشر دقائق أخرى حاولت فيها شحذ ذهن الطالبات لإكمال المحاضرة حتى حدثت غارة أخرى ذات صوت مدوي أكثر شدة مما سبق مما آثار خوف الطالبات مرة أخرى، ودفع بإحدى الطالبات للبكاء بحرقة وحرارة من شدة الخوف. فاستأذنت مني مغادرة القاعة حيث بدا وجهها شديد الاصفرار من الخوف والهلع. وبالرغم من حدوث غارة ثالثة بعد نحو ربع ساعة أخري فإنني أصررت على مواصلة المحاضرة حتى نهايتها تحدياً للاحتلال علماً أن مبنى الجامعة يعاني من تصدعات من جراء الغارات الإسرائيلية التي شهدها قطاع غزة قبل نحو ثلاث أسابيع. وخرجت بعد المحاضرة محاولاً الاطمئنان على طالبتي فعلمت أنها قد بدأت تسترد وعيها حتى حدثت الغارة الثانية مما ساهم في تدهور حالتها مرة ثانية واستدعى ذلك طلب سيارة إسعاف و نقلها إلى المستشفى فاقدة للوعي، وأن ثلاث طالبات أخريات في الطوابق العلوية قد فقدن الوعي من جراء الغارات الوهمية. وأخذت أحدث نفسي إذا كان ذلك يحدث مع طالبات جامعيات عدد غير قليل منهن أمهات أو متزوجات فما بال الصغار في رياض الأطفال ومدارس المراحل الدنيا، فأدركت عظم الفاجعة.
وعدت إلى غرفة المحاضرين في القسم الذي كان مغلقاً بسبب وجود زملائي الآخرين في محاضراتهم، وبعد أن فتحت الباب بمفتاحي وجدت أرضية الغرفة مغطاة بالزجاج المهشم، فنظرت إلى أعلى حيث شاهدت نافذة الزجاج مكسورة وفيها بقايا من الزجاج. فحمدت الله أنني لم أكن جالساً تحتها، وهو مكاني المعتاد أمام جهاز الكمبيوتر في استراحتي بين المحاضرات.
إن المحاولات الإسرائيلية لعقاب الشعب الفلسطيني للنيل من إرادته وصموده لا تخفى على أحد منا. ولكن أين العالم مما تفعله دولة إسرائيل الديمقراطية! فالواضح أن استخدام سلطات الاحتلال للغارات الجوية على هذا النحو قد تم بعد رحيل المستوطنين من غزة. ولذلك فبالنسبة لحكومة إسرائيل فقد خلا قطاع غزة من الإنسان "المستوطنين" ولم يبق فيه سوى أنصاف البشر من وجهة نظرهم الذي يحق أن يُجرب بأطفالهم ونسائهم وشيوخهم كل ما هو ممكن. وهذا بحد ذاته قمة العنصرية التي تتميز بها دولة الاحتلال الصهيوني وسط صمت العالم المتحضر! -(التجديد العربي 29 تشرين اول 2005) -