يأتي "ألبوم" خالد جبران الجديد "مزامير"؛ ليلقي حجراً في مياه الثقافة الفلسطينية الراكدة، ويطرح قضايا ثقافية جديرة بالنقاش، وبالتأمل، ثم بمحاولة الإجابة.
تساءل خالد جبران: "هل موسيقانا الشرقية تطريبية بحكم تعريفها؟ هل قدرها محتوم فعلاً بالتعبير عن "منتهى الفرح" أو "غاية الحزن" فقط؟ وما هما سوى "طرفين نقيضين من الوجدان يتحدان فتغدو الحالة طرباً"! ماذا عن باقي الحالات النفسية والشعورية، التي تشكل جل كيانك النفسي اليومي، وهي خارج حدود التطريب أو الوله والبكاء؟ ماذا عن الخوف؟ والحسد؟ ماذا عن الأمل، القلق، الملل، الجشع، الإحباط، الشجن؟ وماذا عن نشوة الانتصار المؤقت عند اجتيازك الحاجز العسكري المجاور بسلام؟ ماذا عن العقيدة الإلهية حين تتهاوى في أعماقك خزياً يوم يقوم "سيد العالم الأبيض" مدافعاً عن "صليبه المقدس" بصلبك وإخوتك ولغة أمك على صفيح مخيم جنين أو البصرة؟ ماذا تكتب ايها الموسيقي وماذا تعزف؟ أموشحات أندلسية حالمة أم سماعيات تركية مرفهة؟ وهل تتناغم إيقاعاتها الرصينة مع رشاقة وقع الصواريخ على ليل بيت جالا؟ أم تراك تهجرها باحثاً عن التعبير الموسيقي للموت صلباً؟
ألفت هذه المقطوعات، خلال أعوام الانتفاضة الأخيرة، كمنقذ وحيد من العبثية التي تهدد كيانك، وكرد وحيد أتقنه، مجيباً على سؤال يومي، يطرح على كل عربي وشرقي: من أنت؟".
لم يسخِّر خالد موسيقاه لخدمة كلمات أو شعارات محددة؛ بل حاول أن يستنطق الموسيقا من داخلها، وأن يصل إلى أعماق الآلة الموسيقية. وضع الفنان رؤيته الخاصة للموسيقا، كما لمسنا من خلال مقطوعات الألبوم. في مزمور "أصفهان" الاستثنائي، الذي يعزفه مع تلميذه: تامر أبو غزالة؛ وجدنا تجسيداً للمعنى الذي يبحث عن مبنى، نسمع حواراً خلاّقاً بين بزقين، وخلطة بين ثلاثة مقامات: المقام الصلوي، والتراث الشعبي، والمقام التأملي. يقودنا المزمور ليس إلى التأمل فحسب؛ بل إلى الإمعان في التأمل، حتى نرى.
نتأمل فنرى الموت يطوِّقنا ويطوِّق شعوب الأرض من كل جانب، يطوف في مخيم طولكرم، وفي حي الشجاعية، وفي قرية الطيبة ودير جرير، ثم نراه على جسر الأئمة في بغداد، وفي البصرة، ثم في لويزيانا ونيو أورليانز في الولايات المتحدة الأمريكية.
يا للفجيعة حين تخترق القلب وتدميه! يا للعذاب حين يحاور العذاب! وكيف يكون الخلاص؟ هل يكون بالحوار الواعي للوصول إلى نقطة لقاء؟ هل يكون في الغوص في جذور القضايا، وليس بالاكتفاء بالوقوف على سطحها؟ هل يكون بالتنافر أم بالتواصل؟ هل يكون باللقاء المتكافئ ما بين البزقين المشاكسين، أم بغلبة أحدهما على الآخر؟
حاول خالد أن يحرك الجماد؛ فهل فعل؟
في مزمور "الغوص الأزرق"، يغوص خالد وربيع جبران، داخل النفس الإنسانية، وأعماق الروح، يدخلان عالماً بلا قرار، وكأنهما يمشيان في فضاء مجرد. يحاولان أن يجدا مبنى خاصاً بالمزمور، حيث الحوار ما بين البزقين والصوت والإيقاع. يبدأ المزمور هادئاً حيياً، ويأتي الصوت متحرراً من سطوة الكلمات: تنطلق الآه آه آه لتمتد وتمتد وتصل البشر جميعاً، وتتحدث عن "عشاق الطرقات الذين افترقوا"، وكأن لا شيء يعدل العشق، ولا شيء يعدل الإحساس بالفراق.
أما في مزمور "إيراني"؛ فنستمع إلى صراع إيقاعي موجع، تجسده آلة البزق الحادة، مستوحى من كلمات المغني الإيراني داريوش، الذي يذكرنا بعذابات السجناء والمظلومين، في كل بقاع الدنيا. وكأني بسجناء الحرية يعزفون معه، ويصرخون: لنا بذور الأمل. للظالم جبروته وكذبه وتلفيقه. ولنا بذور الأمل. لنا بذور الأمل. وفي مزمار "الصلب"، ننتقل من الإحساس بالظلم، إلى التمرد والثورة على الظلم، وإلى الاختيار الواعي للمصير. كيف يمكن أن يتم تجسيد هذه المعاني فنياً؟ كيف يمكن أن يتجسد الحوار غير المتكافئ ما بين دبابات المحتل هائلة القوة والحجم، وإرادة المقاومة الإنسانية الهائلة والعنيدة؟! نستمع إلى مزيج من الانفعالات، من خلال آلة البزق، حيث الغضب الممتزج بالحزن واللوعة والإرادة الجبارة. ينتصب فعل المقاومة العنيدة أمامنا، وحيث خيار الموت المشرِّف، لا المجاني، في ظل المعركة غير المتكافئة، واختلال ميزان القوى، لصالح المحتل، في مخيم جنين، وفي تل الزعتر، وفي البصرة، وفي بغداد. ويتبدى واضحاً وملحمياً، ذلك الإصرار على الصلب الاختياري، رغم حساب الخسارة الآنية المتوقعة.
*****
إذا كان للموسيقا أن تؤدب وتعلم؛ فلم أكن أدرك أنها يمكن أن تحصِّن النفس، وتقيها شرور العالم. إذ حين يعمّ الظلام، ويصعب التفريق ما بين الفن والاستعراض، يأتي دور مثل هذه الموسيقا النوعية؛ لتمدنا بما يمكن أن يشكل رداً على من يدَّعي، خلوّ الساحة الفنية من الأعمال الموسيقية، ذات القيمة الفنية. وحين نستمع رغم أنوفنا، إلى الأغاني المنتشرة على الأرصفة، وفي المقاهي، وفي النوادي الرياضية؛ تشكل مثل هذه الموسيقا حماية لآذاننا، من التعود على الفن الهابط، أو "النص نص".
لقد قدم الفنان "خالد جبران" فنياً، إجابته على السؤال اليومي، الذي طرح نفسه عليه، وهو: من أنت، حيث ألَّف عمله الفني: "مزامير"، خلال انتفاضة الأقصى، "كمنفذ وحيد له، من العبثية التي هددت كيانه، وكرد وحيد يتقنه كموسيقي"، كما قدم مركز الأرموي، رؤيته حول تجديد الموسيقا العربية، حيث "يُعنى المركز بموسيقا المشرق عامة، وبالموسيقا العربية بالتحديد، ويتناول كلا من مركبات وعناصر الموسيقى العربية الأصيلة، قديماً وحديثاً، بالعناية والبحث والتدقيق، في سبيل المُحافظة على مقومات هذا الميراث، وإحيائه على أرض الواقع، ومُستقبلاً. ويضع المركز نُصب أعينه علاقة الشعب العربي، بهويته الثقافية الأصيلة، وميراثه الروحي والإبداعي، ويصبو إلى شق الطريق، لإعادة التواصل بين المجتمع العربي، وبين مكوناته الحضارية والإنسانية الحقيقية".
ويأتي دورنا لنتساءل، حول العبثية التي تنخر عظامنا: هل تستحق منا وقفة نقدية تجاه أعمالنا، ونظرة متفحصة لما نتقن، من أجل أن نجيب على السؤال المطروح: من نحن؟ - (مفتاح 11 ايلول 2005) -