الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة يعتبر حدثاً استثنائياً مهماً بكل المعايير السياسية التي تحكم الصراع العربي - الإسرائيلي والفلسطيني - الإسرائيلي، وأهم ما يميز هذا الانسحاب، هو ذاك التحول في بنية العقل الإسرائيلي، في أسلوبه، وأدواته في إدارة هذا الصراع منذ ما يزيد على الخمسين عاماً، وربما يبدو للوهلة الأولى، أن سياسة إلغاء الشعب الفلسطيني ومحاولة إبادته ولّت إلى غير رجعة، وحلّت محلها سياسة الرضوخ لواقع مرير فرضه الشرط الفدائي الفلسطيني على الإسرائيليين، تلك السياسة التي حملت في جنباتها غصّة كادت تقتل أصحابها من أعضاء الليكود. وعلى رغم أن الانسحاب من غزة يعتبر نصراً، نتيجة لعمليات المقاومة الفلسطينية في الداخل، ويتعامل معه الفلسطينيون على هذا الأساس، إلاّ أن الأسئلة الكبيرة تبقى أسيرة التعليب السياسي لدى إسرائيل التي تمتلك وحدها مفتاح الأجوبة عليها، والمرتكزات التي بنيت عليها خطوة التخلي عن الأراضي والمستوطنات في القطاع.

أحد هذه الأسئلة غير الواضحة، هو، إلى أين يسير الإسرائيليون في مخططاتهم؟ ورؤيتهم الاستراتيجية للعالم العربي الذي يحيط بدولتهم، ولماذا تزامن هذا الانسحاب مع محاولات واشنطن الحثيثة لتجفيف الوحل العراقي، وإعادة صياغة دستور عراقي له رونق أميركي، يباركه وينقطه السفير زلماي خليل زاده ، بدلاً من أشخاص من سلالة أبو الأسود الدؤلي؟ وهل تندرج هذه المعادلة ضمن إرهاصات مشروع الشرق الأوسط الكبير، الحلم - الكابوس الذي ألهم المحافظين الجدد الذهاب بعيداً نحو المجهول في أرض الشرق، من دون أن يحملوا المشاعل الخاصة بظلمات هذه المنطقة من العالم؟ أم يندرج ذلك كله في بنية العقل الإسرائيلي، الذي بات ينشد سلاماً وطمأنينة لأبناء قومه بعد الرعب الذي عاشه من مناظر الأشلاء البشرية التي تتناثر هنا وهناك؟!

يقال ان ضباطاً من الموساد الإسرائيلي، توجهوا إلى متحف بغداد بعد سقوطها في 9 نيسان (أبريل) 2003، ليتوقفوا أمام تمثال نبوخذ نصر ويقولوا: «ها قد عدنا يا نبوخذ نصر»، ما يؤكد أن الإسرائيليين لم يصلوا بعد «وربما لن يصلوا»، إلى مرحلة تحرير العقل الإسرائيلي من نزعته الاستعمارية، الاستيطانية والاقصائية الفوقية.

ولو افترضنا سلاماً شاملاً في المنطقة، وانسحبت إسرائيل بوداعة الحمل حتى حدود 5 حزيران (يونيو) 1967، فما هي صيغ التعايش التي ستطرحها على شعوب المنطقة؟! هل ستكون الصيغة المصرية الغنية بالمذلاّت بعد اتفاقات كامب ديفيد 1979، أم هي رؤية جديدة مبنية على الحبّ والتآخي والتعايش السلمي والإنساني بين شعوب المنطقة كافة؟ وهل تندمج إسرائيل في الإطار الجغرافي والثقافي والاقتصادي لشعوب المنطقة التي تتقن فن الصفح، والعفو عند المقدرة.

يمكن اعتبار تحرير غزة نصراً، ولكن، تستطيع إسرائيل العودة في ساعات قليلة؟ وهل يمكن اعتبار الاستراتيجية الإسرائيلية الجديدة بمثابة نهج جديد للقيادات بين عمل وليكود، وبين يمين ويسار، ومتطرف ومعتدل، وبين يهودي وصهيوني، ومواطن ومهاجر؟! أم أن القضية أعقد من أن تُرى بهذا المنظار الواسع، وأن ما يقوم به الإسرائيليون هو خطوة باتجاه الظهور بمظهر رسول المحبة والسلام، الذي يبادر إلى تقديم التضحيات العظمى لشعوب المنطقة التي لا ترضى به وريثاً ومتحدثاً بلغة الكنعانيين أجداد سكان الساحل السوري الكبير! ليتزامن ذلك كله مع تمرير مخططات التفتيت والدمار لبلد عربي مثل العراق، تحوله دستورياً، وبموجب عقد اجتماعي شرعي إلى دويلات اللا دولة، وطوائف اللاّ دين، وتبعية الانتماء إلى كل شيء إلاّ الانتماء الوطني؟! فتحقق أميركا غرضها في سحب أوراق اللعبة الأساسية في المنطقة، لتنقلها من أيدي الفلسطينيين، والسوريين «تحديداً»، والمصريين وغيرهم من شعوب المنطقة العربية، إلى أوراق في يد شارون، وبوش ومحافظيه الجدد ، ليعيدوا خلطها لاحقاً بعد الانتهاء من السيناريو السوري واللبناني؟

ربما يعتقد الإسرائيليون أن الانسحاب من غزة، ونقل بعض مستوطناتها إلى الجولان السوري المحتل هو خطوة على طريق السلام، أو أنهم كعادتهم، يستمتعون بلاعب الشطرنج الواحد ؟ فإلى أي مدى يرتبط تحرير الأرض بتحرير هذا العقل من نزعته الاستعمارية، قبل طرح مشروع سلام منقوص المعنى، بالغ التعقيد، وفاقداً نتائجه قبل أن يولد بعملية قيصرية على يد ِ جراح من اختصاص آخر! وهل وصل الإسرائيليون ومعهم الأميركيون إلى قناعة بأن سندويش الهمبورغر الذي يقدمونه لشعوب المنطقة، من دون شريحة اللحم الأساسية، سيبقي البطون جائعة، ما يضطر هؤلاء إلى ملئها بثلاث وجبات يومية رئيسة، من الأحزمة المتفجرة؟ - (الحياة اللندنية 17 أيلول 2005) -