ما يعيشه الفلسطينيون حالياً, من حالة تشتت ذهني تصب اجتهاداً و ترقباً في توقع المستقبل القريب, الذي لن يُعرف له ملامح إلا إذا استقر أمر الحكومة الفلسطينية العاشرة, محلياً و إقليمياً و دولياً, قد لا يعني صدق تنبؤات صنفي المتنبئين و المخمنين, تفاؤلاً؛ في مقدرة الحكومة على تجاوز الأزمة التي تعصف بها و بشعبها نجاحاً, أو تشاؤماً, في فشل الحكومة في التعاطي مع سياسة الأمر الواقع المفروضة عليها, و بالتالي على المتاح من الوطن سقوطاً و انكساراً, سوى أن المحنة التي يقر الجميع بها, من خلال ثقل وطأتها على نَفَس الجسد الفلسطيني المتخم بالجراح شهيقاً و زفيراً, تقتضي حكمة وطنية و شعبية شاملة, لا تقتصر على مؤسسة حاكمة دون أخرى, أو على تنظيم دون سواه .
فبالرغم من كل التحفظات التي عبر عنها و يمكن أن يعبر عنها, منتقدو سلوك حركة حماس الحكومي, إلا أن ذلك لا ينبغي بأي حال من الأحوال أن ينعكس بتصرفات, قد تكون عن قصد أو عن غير قصد, عاملاً مضاعِفاً للضغوط التي تتعرض لها حكومة السيد إسماعيل هنية, لتنسجم تلك التصرفات التي عادة ما تأخذ الطابع الإعلامي, مع ما يريد إملاءه الإسرائيليون, فيصبح المنتقدون في نظر الحكومة, و بالتالي في نظر تنظيم حماس على وجه التحديد في مرحلة قادمة, من الذين ساهموا في إفشال تجربة حماس في السلطة أو من الذين تمنوا لها ذلك, عبر المشاركة في إضعاف حكومتها الوليدة, و هو ما سيطلق عليه نبلاء حماس مستقبلاً
تسمية "المؤامرة" , التي نعوذ بالله أن نكون أحد أسنان ترسها , خصوصاً في ظل سيادة عقيدة الإقصاء التي يمارسها البعض غير القليل من داخل حركة حماس, لمن لا يطوف طوافهم, فيصبح غير الطوافين من غير الطائفيين, أكثر الناس عرضة للاتهام, الذي يصل أحياناً حد اغتيال الشخصية قدحاً و ذماً .
لا بد أن يفهم كل مَنْ بقي على جهله, أن نجاح حكومة السلطة الفلسطينية العاشرة, التي تقودها حركة حماس, يمثل نجاحاً فلسطينياً من الطراز الأول, بغض النظر عن التباين الحاصل في ايدولوجيات الساحة الفلسطينية فصائلياً, و هو ما قد يُحسب في حال انتظمت المياه تدفقاً في مجاريها, على أنه انتصار نوعي لكل إرادات الشعوب, و تكريس لمبدأ تداول السلطات ديموقراطياً في العالم الثالث, و فيه فصل جديد من فصول الإعجاز الوطني الفلسطيني, و إضافة جديدة في عناوين التجارب السياسية و الإدارية المتراصة منذ قيام السلطة الوطنية, مما يتطلب وعياً جماهيرياً و إدراكاً جيداً لكل ما يجري على الأرض, سيما مع تصاعد نبرة التهديد و الوعيد الإسرائيلي للسلطة الجديدة, في ظل الحياد السلبي للمجتمع الدولي, و هو سرعان ما تترجمه دبابات و طائرات دولة الاحتلال على الأرض, ليدفع شعبنا ضريبة الحياة و الموت معاً , "كقرصة" إذن للحكومة الرشيدة .
فكما أننا نطالب حكومتنا الجديدة بقطع الطريق على خبث المحتلين, الذين لم يثملوا بعد من شرب نخب انتصارهم, و الانتشاء على تعمق جرحنا و ازدياد صنوف عذاباتنا, عبر الاعتراف بالشرعية الدولية و التعاطي معها, بما فيها ما يخص قضية وجود إسرائيل و ما تم توقيعه معها من اتفاقيات, لطالما أن حماس قد قبلت الدخول من بوابة أوسلو إلى واحة التشريع و السياسة, فإن كل سلوكيات الحصار و الترويع الإسرائيلي الممارسة بحق شعبنا, تقتضي موقفاً فلسطينياً شعبياً, تكون حماس جزءً منه و ليس كله, لتكون البطولة جماعية و الصمود جماعيا, و هذا ما يمكن أن يوصل الإسرائيليين إلى حقيقة تنبه بعدم جدوى ممارساتهم غير الشرعية, من خلال تعزيز قناعتهم بصلابة الجبهة الداخلية الفلسطينية, التي يجب أن تتفق على مصلحة وطنية عليا, بغض النظر عن عدم التوافق مع برنامج حماس الحكومي, و هو ما يوحد الحكومة و المعارضة "الموالية" في الخندق الأول, فيما تبقى المفاضلة بينهما تحت قبة البرلمان و في الشارع, سلوكاً و نهجاً .
أضحكني ما بثته الفضائيات, في نقلها لحادثة اقتحام مقر المجلس التشريعي بمدينة خان يونس جنوب القطاع, عندما قام ملثمون من قوات الأمن الفلسطينية "على ذمتهم طبعا", بالتعبير عن احتجاجهم على عدم صرف رواتبهم المستحقة لهم عن شهر مارس- آذار, كسائر الموظفين المدنيين و العسكريين, في حين كان المشهد الذي يظن فاعلوه أنه وطني منغمساً بالغوغائية و الفضيحة, مما يبعث الاشمئزاز و الإحباط في النفوس, سيما عندما صرح كبيرهم للفضائيات ناطقاً عن الهوى, أن أفراد قوات الأمن يعانون من ضيق ذات اليد مع تأخر قبض الرواتب, و أن مديونياتهم للمتاجر حالت دون الاستمرار في الاستدانة, و تلك حالة عامة أضحت ظاهرة بين كافة الموظفين, و لكن الغريب أن يسود ما حدث فعلا, لنسأل؛ هل يحق لأحد من أفراد الأمن استخدام سلاحه في الغوغاء الاحتجاجية ؟ و لمَ يتقنع المحتجون و لا يظهرون بوجوههم مسالمين في مشهد حضاري ؟ ثم كيف لمحتج منقلب على الفقر و يدعي الإفلاس أن يظهر في فمه سيجارة , فيما هو يطالب بالحد الأدنى من لقمة العيش ؟ أظن البعض يسيء لمنظومة القيم الفلسطينية أمام العالم, فإن فعلها مسيئاً و كان لا يعلم فتلك مصيبة , و إن كان يعلم فتلك "بلوى" من العيار الثقيل . - مفتاح 17/4/2006 -